الجمعة، 22 يناير 2021

مومن الديوري/ مراجعات ممنوعة في كتب محظورة

 مراجعات ممنوعة في كتب محظورة



نشر في دنيابريس يوم 27 - 05 - 2011


قدر المغرب بين الملكية والجمهورية
يذهب مومن الديوري في كتابه (حقائق مغربية) إلى أن القول المتواتر في فولكلور التاريخ المغربي ودونكيشوتيات حاضره بأن الملكية هي الضامنة الوحيدة لوحدة المغرب فيه كثير من المغالطة والتزييف. ويذهب الكاتب أبعد من ذلك ليبرهن في الفصول الأولى من الكتاب على أن المغرب لم يعرف للوحدة طريقا إلا في ساعات صراع الشعب ضد الحكم المركزي الملكي.
يعتمد الديوري على مقاربة منهجية تعود بذاكرة القارئ إلى خطوات الملكية الأولى في المغرب، مرورا بحروب المنصور الذهبي والمولى إسماعيل الدامية ضد مغاربة استفحل فيهم الجوع والفقر والمرض، ومذكرا بمساومة عبد الحفيظ على استسلامه وتخليه عن العرش وبيع الملكية بشيك من قيمة مليون فرنك ودخل سنوي؛ قبل أن يندم -على حد ما جاء في شهادة ويليام هاريس في كتابه (المغرب المفقود)- لا على فعلته ولكن على عدم ابتزاز مزيد من المال والممتلكات تعويضا على رحيله. لا تكاد تسلم من تحليل الديوري دولة واحدة من الدول المتعاقبة على حكم المغرب. وليس ذلك بغريب على رجل خصص أكثر من كتاب لتصفية حسابات الشعب العالقة مع الملكية، وظل يناضل باستماتة مرورا بخانة السجن والمنفى في سبيل زوال “الملكية الدستورية الديموقراطية الاجتماعية” واستبدالها بالجمهورية.
وتذهب أطروحة الديوري إلى أن عدم قابلية الشعب المغربي لاختيار مصيره بنفسه و قصوره العضوي الوراثي نظرية ابتكرها وروج لها الاستعمار. وأن مقاربة (بلاد المخزن) المطمئنة في مواجهة (بلاد السيبا) مرتع الفوضى العارمة، تصوير بلاستيكي للواقع المغربي سرعان ما يتلاشى أمام استمرارية جيوب المقاومة على مدى التاريخ، في بلاد المخزن قبل بلاد المتمردين أو المقاومين، على حسب تموقع الؤرخ الإيديولوجي. أما هيمنة المخزن المفترضة، فلم تتضح معالمها بجلاء -في تحليل الكاتب- إلا بعد ما تلقاه من دروس الاستعمار الخصوصية في تقنيات وآليات التسلط الإمبريالي.
قدر المغرب بين نعمة علال ونقمة عبد الكريم
بعد نفي السلطان محمد الخامس بنصف ساعة؛ في العشرين من غشت 1953، يأتي تصريح علال الفاسي من إذاعة صوت العرب من القاهرة : “وإننا كزعيم حزب الاستقلال، وكواحد من علماء القرويين الذين لهم وحدهم حق انتخاب السلاطين. أعلن رسميا أن الملك الشرعي لمراكش كان وسيظل محمد الخامس. وأن ولي عهد المملكة الشريفة هو مولاي الحسن النجل الأكبر لسلطات مراكش.[...] وإنني أهيب بالشعب المراكشي أن يواصل كفاحه من أجل الغاية الوحيدة التي هي استقلال البلاد، وان يبذل معنا كل ما يستطيعه من الوسائل للذب عن كرامة ملكنا الشرعي، وإعادته إلى عرشه عالي الرأس موفور الكرامة.”
يصف مومن الديوري خطاب علال الفاسي من مكمنه في القاهرة بالدرامي ويشبهه بنداء دي غول في 18 يونيو 1940 على موجات إذاعة البي بي سي من نعومة المنفى في لندن. ويشير إلى تسرع زعيم حزب الاستقلال في ربط المقاومة بمحمد الخامس، في حين أنه كان للمقاومة شهداؤها من قبل حادثة النفي في عام 1953، والذين تجاهلهم عن قصد وبكل بساطة عندما صب كل اهتمامه على تمجيد السلطان ومعه سلالة العلويين. وتناسى أن الشريعة الإسلامية من جهة، والمؤسسة الملكية المغربية من جهة ثانية، لا تعترف بمبدإ ولاية العهد في مقابل مفهوم البيعة الذي يعين السلطان خادما للشعب لا العكس. وهكذا أراد علال الفاسي أن يقطف الملك ومعه البورجوازية التي يمثل الحزب مصالحها؛ ثمار الكفاح على حساب أرواح الشهداء من القوات الشعبية.
لم يحد المهدي بن بركة كثيرا عن هذا التحليل عندما اعترف في نقده الذاتي للحركة الوطنية في (الخيار الثوري في المغرب) بأنها ارتكبت خطأ فادحا بإقحام رمز الملكية الرومانسي في معادلة كفاح الشعب السريالي ضد الاستعمار الواقعي... لأن الطبقات الشعبية وحدها حملت على كاهلها عبء الصراع وتكاليف الخسارة في الأرواح.
ولا يفوت الديوري أن يستدرج ذاكرة القارئ في اقتفاء أثر تصريحات الزعماء الاستقلاليين من منفاهم في القاهرة وباريس ونيويورك، المشبعة بتشبتهم بالعمل الوطني السلمي ورفضهم لأساليب المقاومة المسلحة رفضا باتا. وتحولهم الانتهازي قبيل الاستقلال ومن بعده مائة وثمانين درجة مدعين أنهم “أمراء جهاد” وأنهم كانوا سباقين للدعوة للكفاح المسلح. مع أن حرب الاستقلال بدأت بدون حزب الاستقلال. وقد نكون أقرب إلى الصواب بقولنا أنها بدأت ضده، إذا ما اعتمدنا في حكمنا هذا على شهادات تاريخية -مما يستعسر إنكارها وتستحيل إعادة تأويلها- من رجال الحزب أنفسهم، وعلى رأسهم “أمير الجهاد” علال الفاسي. لكن الديوري لا يستغرب من تصرفات حزب ملكي أكثر من الملك، سعت عناصره البورجوازية منذ تأسيسه عام 1943 إلى رعاية مصالح طبقتها سعيا حثيثا. ولم تلتفت لمطالب يا أيها الناس حتى من بعد أن انظم للحزب مثقفون من عامة الشعب على شاكلة المهدي بن بركة، عبد الرحيم بوعبيد وعبد الله إبراهيم.
ويستطرد الكاتب في جرد جرائم الحزب التاريخية التي لا تعد ولا تحصى، وكيف كان يصول بعد الاستقلال في مغرب العبث والكيل بالموازين المقلوبة، فيجول ببيع بطاقات المقاومين لمن يدفع أكثر. إذ لم يكن من الغريب أن تجد عميلا قبل الاستقلال مقاوما من بعده، في حين يظل المقاومون يلهثون وراء “البطاقة” حتى توقفهم في جريهم رصاصة طائشة أو حادثة سير مروعة، بقضاء الله وقدره. ولم يكن من العجيب، في سوق يعرف ثمن كل شيء ويستهين بقيمة أي شيء، أن تدعي فاطمة أوفقير في كتابها (حدائق الملك) -والذي أدعو القراء بالمناسبة إلى توفير ثمنه لدفع فاتورة الماء والكهرباء- أنها وزوجَها “الجزار” كانا من السباقين للانضمام إلى صفوف المقاومة. أولعلنا لا نتسرع فنظلمها بزلة لسان خفيفة ونحاسبها على نكتة سخيفة، فربما كانت تقصد “مقاومة المقاومة”.
وهكذا تاجر أعضاء الحزب في بداية الستينيات في طبع بطاقات المقاومة، ومنحوها مع ما تخوله من امتيازات لذويهم. ومن أبنائهم من لم يشهد المقاومة لصغر سنه. ويشير ووتربوري بأسلوبه الذي لا تعوزه روح الفكاهة في كتابه (أمير المؤمنين) إلى أن إدارة المكتب الوطني للمقاومة عهد بها في 1966/67 لعبد السلام بن عيسى الذي قاوم الاحتلال عن بعد في باريس حيث كان يدرس القانون.
لم يكتف الحزب باغتيال الفنان القدميري الذي فضح (قضية البطاقات) في إحدى أغانيه الساخرة. بل تورط في عمليات تصفية ما يناهز خمسين رجلا من قادة جيش التحرير وأعضاء حزب الشورى والاستقلال من الذين قرروا تأسيس تحالف سياسي عسكري يهدف لقيام نظام جمهوري بالمغرب. كان تورطا مباشرا يتم باجتماع على مستوى القمة في الحزب بغرض “تدارس التصفيات حالة بحالة” قبل إعطاء الضوء الأخضر للغزاوي (مدير الأمن الوطني) ليكلف فرق القوات الخاصة المنتمية للشرطة بتنفيذ العمليات. بهذه الطريقة تمت تصفية عباس المسعدي (قائد جيش التحرير في الشمال، في يونيو 1956 حيث كان من المفروض أن يلتقي في “ظروف غامضة” بالمهدي بن بركة في فيلا بفاس)، عبد الله الحداوي (يقتل بطلقات مدفع رشاش في سيارته الفولكسفاكن على مشارف الدار البيضاء بعد عودته من اجتماع مع قادة جيش التحرير في الرباط و بعد لقاء غريب مع مختار اليوسي)، أحمد الطويل (زعيم الهلال الأسود)، عبد الله عبد الكريم، دريسي، الشرايبي، الأركي، يحيى لبار، إبراهيم الروداني وآخرين.
ثم يعود مومن الديوري بالقارئ إلى معمعة حملة التحضير لاستفتاء الشعب حول تبني أول دستور في تاريخ المغرب المستقل، والذي أشرف على صياغته فقيه القانون الدستوري و أستاذ علم السياسة الفرنسي موريس دوفيرجي بطلب من الملك. ويتذكر رسالة عبد الكريم الخطابي إلى المغاربة على موجات إذاعة القاهرة في الأول من دجنبر 1962...
إن دستورا لم تأتي به لجنة منتخبة لا يمكن قبوله، خصوصا أن الاستفتاء عليه يتم دون أن تمكن التعبئة” العادلة من ولوج للإعلام العمومي و إمكانية شرح كل وجهات النظر للمواطنين لا نريد أن نكون أضحوكة الدستور المصنوع للمغاربة مؤخرا، موضعا للمشاحنات، أو الخلافات، وان نكون هدفا للمنازعات والخصومات، ومحلا للجدل والهراء... بين أبناء الأمة المغربية. فمادامت الأمة المغربية أمة مسلمة تدين بدين الاسلام الحنيف، ومادام في البلاد من يفهم هذا الدين والحمد لله.. فمن السهولة بمكان ان نجد الحل الصحيح لكل ما يعترض سبيلنا في حياتنا الاجتماعية، بدون اللجوء الى التحايل، والى الخداع والتضليل. إن التنصيص في هذا الدستور المزعوم على (ولاية العهد) ماهو إلا تلاعب، واستخفاف بدين الاسلام والمسلمين... إذ كنا نعلم ان مسألة الإمامة نفسها كانت دائما موضع خلاف بين علماء الاسلام منذ بعيد، وما ذلك إلا لعدم وجودها في القانون السماوي. هذا في الإمامة. وإما في ولاية العهد فلا خلاف انها (بدعة) منكرة في الاسلام، وكلنا يعلم ان مؤسسها معروف، ونعلم من سعي في خلقها في ظروف معينة، ولغاية معلومة.. فإذا كانت مخالفة للشرع الاسلامي فلا محالة ان تكون موضع (تهمة).. ويقول إمام المذهب مالك بن أنس (ض): «ليس من طلب الأمر، كمن لا يطلبه». وذلك لأن الطلب يدل على الرغبة، والرغبة تدل على (التهمة) وعدم الطلب يدل على الزهادة والنزاهة. ثم إن ولاية العهد إذا كانت مفروضة قسرا، فلا تلزم المسلمين، إذ من المعلوم ان كل بيعة أو يمين كانت بالإكراه تكون باطلة. إذا كانت الأمة المغربية، أمة مسلمة.. فلابد لحاكمها المسلم أن يكون مطيعا لله، وبالخصوص فيما بينه وبين الأمة المسلمة، وعليه أن يستشير المسلمين في كل الأمور، عملا بقوله تعالى «وأمرهم شورى بينهم»، وبقوله في آية أخرى «وشاورهم في الأمر» فأين نحن من مضمون هاتين الآيتين الكريمتين، وكيف نوفق بينهما وبين من يريد الاكتفاء بالتحايل وخداع الأمة في أمر الشورى وغير الشورى...؟ لاشك أن التهمة موجودة وواضحة بشأن هذا الدستور المزعوم.. كلنا يعلم ان الرسول الكريم (ص) أمر باستشارة جماعة المسلمين، رغم كونه (ص) مؤيدا من عند الله بالوحي، ومعصوما والله يعلم عصمة نبيه وحبيبه ومع ذلك الامر، يأخذ رأي الجماعة، وذلك للتسنين. فالحاكم المسلم بمقتضى الآيتين مأمورا أمرا وجوبيا باستشارة الأمة من غير أن تطالبه بها.. فكيف بحاكم يريد ان يخدع الأمة، في الوقت الذي تلح فيه هي في طلب الاستشارة؟ لقد نادى المغاربة بالدستور بعد ان فقد العدل، وبعد ان سيطر الجور والظلم والطغيان، ظنا منهم أنهم سيجدون (العلاج) في الدستور، فإذا بهم أمام كارثة أخرى أدهى وأمر مما سبق.. إن المغاربة لا يحتاجون الى دستور منمق بجمل وتعابير، تحمل بين طياتها القيود والأغلال.. إنهم يريدون تطبيق دستورهم السماوي الذي يقول: إن الله يأمر بالعدل والإحسان.. يقول «وإذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل»، وغير ذلك من الآيات الكريمات التي جاءت دستورا سليما للأمة الاسلامية. وأما من خالف هذا الدستور فقد قال فيه القرآن الكريم: «وأما القاسطون فكانوا لجنهم حطبا»... ويقول الرسول الأكرم (ص): «إن أعتى الناس على الله، وأبغض الناس الى الله، وأبعد الناس من الله، رجل ولاه الله أمر أمة محمد، فلم يعدل فيهم».. ويقول عليه الصلاة والسلام: «من مات غاشا لرعيته، لم يرح رائحة الجنة»... ولا نكون من المغالين إذا قلنا، ان هذا الدستور المزعوم، قصد به في الحقيقة تطويع الشعب المغربي وترويضه طوعا أو كرها حتى يصبح معتقدا بأن حكام البلاد يحكمون بتفويض من الله.. وهذا شيء يتنافى مع (معتقد) الأمة الحقيقي. إذن، فخير، لواضعي الدستور المزعوم ان يرجعوا الى الجادة المستقيمة حتى لا يتسببوا في الكارثة، ويكونون هم (الجناة). وبهذه المناسبة أوجه ندائي الى الشعب المغربي كله، في قراه وحواضره وبواديه أن يتنبهوا للخطر الماحق الذي يهددهم عن طريق هذه اللعبة المفضوحة، فليس هناك دستور بالمعنى المفهوم للدساتير، وإنما فقط هناك (حيلة) ولا أظن ستنطلي عليهم.. فقد شاهدوا مثيلات لها فيما مضى.”
تعود بنا ذكرى هذه الرسالة – وقد حالفنا الفشل في تجنب استنساخها كاملة- بواقعيتها “التشريحية” وصراحتها “التي تسمي الأشياء بمسمياتها” إلى المستقبل، متخطية حاضر المغرب وقد عج بقصور شرائح واسعة من المواطنين غلب عليهم النعاس واللامبالاة وأثقل عليهم نفاق الأحزاب السياسية وانتهازيتها المعهودة.
تتقابل شخصيتا عبد الكريم وعلال الفاسي تقابلا قطريا في مواجهة الاحتلال وفي تغليب المصلحة العامة على المنفعة الخاصة. كافح الأول في جبهتين ضد الإسبان، وضد الفرنسيين بمباركة مولاي يوسف الذي باح للجنرال جوان -وقد أتى لتعويض إدارة ليوتي الكارثية للعمليات العسكرية- بأمنيته الدفينة “خلصنا من هذا المتمرد !”، قبل أن يتبخر حلم سنوات الجمهورية (الريف-وبليك -1925/1926) وقبل أن يخمذ الجنرال أوفقير نار الثورة (الريف-ولسيون -1958/1959) بعد استقلال المغرب الشكلي. بينما سعى الثاني إلى التحالف مع المؤسسة الملكية ضد مصلحة الشعب طمعا في التهافت على ما يتصدق به عليه من فتات كعكة السلطة ونواة الكرزة التي تزينها.
وتمتد حدود الاختلاف بين الرجلين إلى تراكيب اللغة واختيار المفردات، عندما يلتقيان في منفاهما بالقاهرة في سنة 1947، ويقاطع عبد الكريم الخطابي قول علال الفاسي “كان هذا أثناء فترة التمرد في الريف...” مصححا “لماذا تقول (تمرد) ؟! إنها كانت حرب تحرير ضد الاستعمار ودفاعا عن الشعب.”
http://gibraltarblues.blogspot.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق