أحداث دموية واعتقالات واغتيالات.. حكاية آخر مقاوم من تنظيم الهلال الأسود السري
بعد الإستقلال -والذي اعتبره البعض منقوصاً- تعالت شعارات مضللة دعت الجماهير للعفو عن الجلادين وطي صفحة الماضي الأسود للخيانة.وما هي إلا أيام قليلة وبدأت تبرزمؤشرات ذلت على أن الخونة والعملاء هم الذين كانوا أكبرالمستفيدين من الإستقلال المبثور. وبذلك، ومنذ الوهلة الأولى، ضاعت أحلام الجماهير الشعبية المغربية وذهبت تضحياتها سدى
الثلاثاء، 26 يناير 2021
الجمعة، 22 يناير 2021
الديوري... المنفي الذي قال إن الإسلام هو الحل بعد العودة إلى الوطن
الديوري... المنفي الذي قال إن الإسلام هو الحل بعد العودة إلى الوطن
يرقد حاليا مومن الديوري، اليساري الذي عاش عقودا من الزمن في المنفى كمعارض لنظام الحسن الثاني، في وضعية صحية جد متدهورة في الرباط. الديوري يصارع لوحده في صمت داء
قاتلا، إنه داء السرطان الذي استوطن جسده دون سابق إنذار. قبل عودة الديوري إلى المغرب، وعند الحديث عن طي صفحة الماضي ووعود الإنصاف والمصالحة والتوجه للمستقبل، تم الاتصال الديوري كواحد من أهم المعنيين باستحقاقات العدالة الانتقالية، لكن اشتراط اعتذاره برسالة مكتوبة مقابل تسلمه لجواز سفره جعله يستنتج أن الإرادة السياسية غير متوفرة بعد، فما كان منه إلا أن أدار الظهر لكل هذه العروض, غير أن الوزير السفير الذي اتصل واشترط، هو نفسه, من سيتصل, بعد ذلك بفترة قصيرة ليطلب من المنفي المعارض أن يختار أي قنصلية تناسبه لتسلم جوازه..
كان لاسمه، منذ البداية، استشراف لما سيؤول إليه مساره الذي كان لا يزال في علم الغيب عند بارئه وقتها..
«مومن» هذه هي التسمية التي أهرقت من أجلها دماء العقيقة ذات يوم من أيام سنة 1938 ب «القنضرة ن علي أوعدي» التي ستصبح خلال الحماية Port lyautey قبل أن تحمل اسمها الحالي, القنيطرة. و كان الوالد يقصد من وراء اختيار هذا الاسم تجسيد معاناته بسجن علي مومن (عين مومن كما هو مشهور شعبيا) الذي قضى به ورفاقه ردحا من الزمن عقابا لهم على الاحتجاج ضد السياسة الاستعمارية لتمزيق الأمة من خلال قضية الظهير البربري الشهير. هكذا إذن، منذ الولادة، سيرتبط اسم صاحبنا بالسجن بما هو تضحيات و أثمان استحقاقات الكرامة والعزة و الحرية التي كان لها اسم جامع يؤطرها كلها حينئذ، تم اختياره عنوانا للمرحلة؛ الاستقلال. ولأن والد صاحبنا واحد من رواد الحركة الوطنية وقتها، و أحد رافعي ألوية معارك المرحلة كأحد الموقعين على وثيقة الاستقلال، فإن ثمن الاستحقاق سيحل ثانية وسيكون نصيبه هذه المرة أحد سجون التهامي الكلاوي.. وهناك، في السجن، سيبدأ مومن، وقد أصبح يافعا، يدرك عمق المعنى في الاسم الذي يحمله .. كان، تحت أنظار إيدر، جلاد الكلاوي المشهور، يحاور أباه داخل سجنه، ولم يكن يخطر بباله أن تلك كانت آخر مقابلة معه .. و عندما سيفجع، بعد فترة قصيرة من هذه الزيارة، بمقتله في زنزانته، سيتنهد ويسجل إحدى أهم الحقائق التي عليه أن يواجهها والتي ستؤطر حياته، كل حياته بعد ذلك؛ أن الحرب ضد الاستعمار وعملائه ضارية وقاسية وطويلة الأمد ..
بهذه القناعة سيقتفي ابن الشهيد محمد الديوري آثار والده الفكرية والتنظيمية، مبكرا في تنظيمات حزب الاستقلال التي سيغادرها، مبكرا كذلك، مع المغادرين إلى وجهة تجذير النضال في البناء الوطني و مواجهة الاستعمار وعملائه وأدواته و مخططاته. وهكذا، من الموقع الطلابي و الشبيبي، خاض الشاب مومن كفاحات آخر الخمسينيات منذ التحاقه بباريس للدراسة سنة 1957 ثم بسويسرا سنة بعد ذلك حيث كان يدرس العلوم السياسية، ومن هناك، و في إطار المنظور التحرري الوحدوي حينها للجناح اليساري لحزب الاستقلال، إلى مواقع الكفاح في صفوف الثورة الجزائرية بتوجيه من المهدي بنبركة .
تعليمات بنبركة
كان الشاب مومن، وهو في سويسرا يجمع بين متابعة دروسه ومتابعة توجيهات رفيقه و أستاذه بنبركة في تنسيق العمل بين ثوار الجزائر والثوار الأمميين الكبار وباقي فعاليات الكفاح التحرري آنئذ، لاسيما في الأقطار الإفريقية. وجدير بالتذكير أن ثورة المليون ونصف المليون شهيد وقتها كانت، شأن الثورة الفيتنامية أواسط السبعينيات والثورة الفلسطينية اليوم، هي بؤرة الاهتمام لكل دول المعسكر الشرقي وكل حركات التحرر وكل ثوار العالم في خضم المد الثوري الذي كان يميز تلك المرحلة من التاريخ . وسيكون لحسن أداء التكليفات آثاره فيتم تحميل الشاب مومن بن محمد الديوري مسؤوليات أكبر (بعد لقائه أعضاء من الحكومة المؤقتة) كمفوض باسم جبهة التحرير الجزائرية بكل من سويسرا، فرنسا، ألمانيا و بلجيكا ثم ما لبث أن التحق بالجزائر كمنسق للولايات .
سيبدو هذا الأمر مفارقا لأجيال الضغينة التي كبرت على العداء بين المغرب والجزائر، لكن الذين عاشوا المرحلة والمطلعين على هذه الفترة القريبة منا يعلمون أن هذا شيء عادي في إطار الروح الأخوية والتعاون والتضامن الذي جمع الشعبين و طليعتهما في الكفاح الوطني حينها.. ألم يتم اختطاف زعماء الثورة الجزائرية من طائرة أقلتهم من المغرب على عهد محمد الخامس؟ ألم يكن سعيد بونعيلات (رئيس المجلس الوطني للمقاومة الحالي) رجل الثقة والحارس الشخصي لأول رئيس للجمهورية الجزائرية أحمد بنبلا ؟ ألم يكن الوزير الطيب محمد الطاهيري ( بائع الجرائد اليوم في أكدال) مستشارا لرئيس الجمهورية الجزائرية ؟
لقد كانت هذه الفترة و مهامها من أخصب فترات مومن حيث مكنته مهامه من التقاء قادة كبار واكتشاف العالم والوقوف عند العديد من التناقضات والمفارقات المرتبطة بتمايز الثقافات وتعقيدات الخصوصيات في الواقع، لا كما تطرحها الإتوبيات المجنحة. وفي هذا الإطار يحكي صاحبنا عن إحدى صدماته مع لوران ديزيريه كابيلا، رئيس الشبيبة الكونغولية على عهد الزعيم باتريس لومومبا (ورئيس الكونغو = زايير) بعد الإطاحة بموبوتو .. «لقد طلب مني المهدي تحضير لقاء له مع تشي غيفارا لترتيب انتقال وإقامة عدد من الثوار الأطر لتدريب وقيادة حرب العصابات بالكونغو لمواجهة الإمبريالية الغربية وعملائها هناك ..»، «لكن المفاجأة يضيف مومن هي الرفض القاطع الذي واجهني به الشاب الإفريقي و الأكثر إثارة هو السبب «لقد استغرب الشاب كابيلا تجرؤ الشاب غيفارا أبيض البشرة على مثل هذا الطلب، لا لأن الثوار الأفارقة لم ينضجوا بعد لتقبل هذا الأمر وإنما لأن هذه هي القناعة العميقة لكبيلا نفسه» !
شيخ العرب
لقد كان مومن، في خضم مهامه بين الجزائر والدول التي كان يتحرك فيها لمواجهة الاستعمار ومخططاته وعملائه، يتابع مجريات نفس المعركة واستحقاقاتها في المغرب. وعند إعلان استقلال الجزائر(1962) سيعود ليجد أمامه وضعا في غاية الاحتقان ، لقد تم حل جيش التحرير وتم اعتقال الناطق الرسمي باسم المقاومة وجيش التحرير وأقيلت حكومة برنامجها الاستقلال الاقتصادي وتدارك ارتهان السيادة بأوفاق إيكس ليبان وانتقل محمد الخامس إلى بارئه وتم إعدام قادة المقاومة: «مولاي إدريس بن أحمد الدكالي، وأحمد بن محمد تاجا (الجابون)، وعبد الله الزناكي، ومحمد بن حمو، الذي كان قد حكم عليه بالإعدام أيام الاستعمار .. و لم ينفذ فيه ... وأعدمه الحكم الفردي»، كما جاء في جريدة (التحرير 25 يناير 1962)، أي العدد الذي تلا يوم إعدامهم...
ومما جاء في التحرير أيضا أن بنحمو، قبيل الإعدام، رفض أن تعصب عيناه حين إطلاق الرصاص عليه وفضل أن يعيد قول المقاوم الراشدي عندما واجه تنفيذ حكم الإعدام الصادر ضده من محكمة السلطات الاستعمارية الفرنسية، صارخا: «أتركوني أرى ولآخر مرة سماء المغرب الذي أموت في سبيله». وعندما تقدم الجند لإعدام عبد الله الزناكي هتف عاليا: «يحيا التاريخ». أما الجابون فقد صاح يقول: «هذا ما يجازينا به الإقطاع».
في ذلك السياق عاد صاحبنا إلى المغرب، وكانت حركة أخرى تشق لها طريقا خاصا بها بقيادة أمسليل ابراهيم «الحلاوي» والمقاوم الاتحادي الأسطورة، «شيخ العرب» الذي اقترنت الحركة باسمه، واسمه الحقيقي أحماد أو ابراهيم أكوليز؛ هذه الحركة التي سيجد فيها صاحبنا ضالته في أجواء الاحتقان الذي لخصه بيان الكتابة العامة للاتحاد الوطني للقوات الشعبية بالقطع حينها فيما يلي: «الاتحاد الوطني ينادي الوطنيين المخلصين وكافة مناضليه لقطع الطريق في وجه عملاء الإقطاع والاستعمار الجديد.. الاتحاد الوطني للقوات الشعبية يفتح واجهة جديدة ليخوض المعارك في نفس الميدان الذي اختارته الرجعية لهزيمتها.. لا سبيل لإصلاح النظام الإقطاعي الرجعي القائم وعلاجه وتركيزه، لا مجال للتهادن، فأحرى الانسياق معه، بل لا دواء له غير زواله...».
(بيان 17).
أوفقير يهدد بأمعاء الصقلي
لقد انطلقت مرحلة «الحكم الفردي المطلق»، بإدارة أحمد رضا كديرة، أو «ظل مولاه» بتعبير بنبركة وعبد الرحيم بوعبيد، الذي كان في آن واحد، الرئيس القانوني للحكومة، والمدير العام للديوان الملكي، ومدير ديوان رئيس الحكومة (الملك)، ووزيرا للفلاحة، ووزيرا للدفاع، ووزيرا للداخلية، ووزيرا للخارجية بالنيابة. أما الأدوات والأذرع فكانت ثلة من الأسماء التي كانت «مهام» بالأمس مع الاستعمار وقدماء الضباط في الجيش الفرنسي كأوفقير وأحرضان و الدليمي
وغيرهم.
هكذا احتدم الصراع وانطلقت سنوات التي ستوصف فيما بعد ب»سنوات الرصاص» .. وحين سيقع صاحبنا في قبضة الضباط، قدماء الجيش الفرنسي سيصبح فريسة للحقد والضغينة وستشكل تجربته، إلى جانب الفقيه البصري وعمر بنجلون المغتال بعد ذلك سنة 1975، واحدة من أفظع المحطات للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان على يد كبار جلادي الكاب1 ودار المقري.. فعند اختطافه سنة 1963، وبعد التحقيق معه في الثكنة الأمريكية بالقنيطرة، تم نقله إلى المعتقل السري دار المقري، مورس عليه مختلف أنواع التعذيب لحمله على الشهادة على قيادة الاتحاد وبالخصوص الفقيه البصري المطلوبة رقبته باعتباره «رأس الثعبان» بتعبير رضا كديرة في جريدته «ليفار»، وحتى لا يتم ترك أي هامش لأي تردد، فإن الجنرال أوفقير (كان حينها كولونيل) فرض على صاحبنا، من باب الترهيب، أن يشاهد مشهدا مما ينتظره في حال التراجع عن الشهادة أمام القاضي.. أما المشهد فهو بقر بطن الضابط الوطني الصقلي المعلق من رجليه بواسطة سكين بيده وبشكل جعل أمعاءه تندلق على وجهه الذي تم التمثيل به بشكل وحشي قبل ذلك ...وفي نفس الإطار يروي مومن الديوري حكاية أخرى يفيد خلالها أنه، بعد حصة فظيعة من التعذيب وضعه الجلادون في سيارة جيب لا يقوى على أي حركة، ولا حتى فتح عينيه وقبل تحرك الجلادين سمع أوفقير يصرخ فيهم بالفرنسية «حيا أو ميتا أريد الأموي هنا الآن». وبسرعة جنونية تحرك الجلادون، وبعد مدة توقفت الجيب، هرج و مرج وصياح ثم طلقة رصاصة، وبعد هنيهة يضيف الديوري، تلقى علي جثة ظلت تفور منها دماء حارة حسبتها جثة الأموي لكنها، كما تبين فيما بعد، لأستاذ جامعي عاثر الحظ اسمه بنسالم ظنه الجلادون أنه هو الأموي».
الشاهد المملوك و «لوكي لوك»
كانت الحكومة وصحافتها قد رتبت كل شيء لإدانة قيادة الاتحاد، بناء على «التزام» الرهينة الشاهد» المملوك لأوفقير ب«الاعتراف» بتورط تلك القيادة في المؤامرة ضد الملك، لكن المعتقل الرهينة هو بن محمد الديوري الذي لم تنفع معه لا مساومات ولا تهديدات التهامي الكلاوي، فكيف ستنفع معه مساومات وتهديدات أوفقير، المحسوب على العسكر الفرنسي، مع مومن بن محمد الديوري؛ «نعم سيدي الرئيس إن هناك مؤامرة كبرى لكنها ليست ضد الملك وإنما ضد الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وقيادته ومناضليه».. هذه هي شهادة مومن الديوري التي جعل بها السحر ينقلب على الساحر.. ولكن لأن عهد أوفقير قد انطلق، فإنه لا معنى يبقى لسلطة القضاء ونزاهته واستقلاله، فكان طبيعيا ألا يكون، مقابل شهادته؛ أقل من حكم الإعدام له و لرفيقيه الفقيه البصري وعمر بنجلون! سيقضي بالسجن، في حي الإعدام حوالي سنتين . وعلى مسافة قصيرة من إعدامهم (أوصلوا البصري مرة قرب مكان التنفيذ ثم أعادوه)، ستندلع مظاهرات ما سيعرف بأحداث الدار البيضاء أو مجزرة 23 مارس 1965 سيضطر النظام إلى إلغاء أحكام الإعدام ثم إخلاء سبيل المحكومين ومنهم صاحبنا . وهنا تحكى عنه إحدى الطرائف بينه وبين رفيقيه في حي الإعدام. فلقد رفض الخروج من السجن على إثر العفو الصادر في حقهم «... حتى لا نسهم في تخفيف الخناق بخروجنا على النظام» وعندما نهره الفقيه مستفسرا بإنكار: «و كيف نصرف هذا الموقف الغريب، هل نقول لهم لا نريد مغادرة السجن، من سيأخذنا على محمل الجد؟»، أجاب مقترحا: «نخرج من هنا مباشرة إلى مؤتمر صحفي بالدار البيضاء نهاجم فيه النظام وهكذا يعيدوننا وتستمر أزمة النظام، هنا تدخل عمر بنجلون، مزيحا إياه من الطريق: «... باركا ما تدير علينا هنا لوكي لوك !».
السنوات الملتبسة
خرج صاحبنا من السجن ليجد نفسه أمام حقيقة مرة: إن رفيقه ومثله الأعلى «شيخ العرب» قتل، وهو في السجن ثم اختطف واغتيل، بعد ذلك، رفيقه المهدي (29 أكتوبر 1965).. هنا سيختار الشاب مومن أن يدخل في اختفاء طوعي عن الأنظار حوالي خمس سنوات «ملتبسة» يطرح حولها رفاقه عددا من الأسئلة، لكن صاحبنا الذي يعتبر أنه غير ملزم بأن يعطي الحساب لأحد من هذه الناحية، فضل الصمت عن هذه السنين التي لم يكشف شيئا عنها إلا في المدة الأخيرة حين قال بأنها أجمل سنوات عمره. للعلم فإنه خلال هذه السنوات تزوج بالمخرجة السينمائية الشهيرة فريدة بليزيد التي رزق منها بنتان؛ عايدة (مصممة ملابس و كنزة معنية بالشؤون المالية) .. غير أن النوم في العسل لحظة لا يمكن أن يطول لمن يحمل هم الوطن، وهكذا، في سياق القمع الذي رافق أجواء محاكمة الفرقاني ومن معه، سيحس ب»الصهد» مقتربا من جديد، فكان عليه، قبل أن تنزل الفأس في الرأس أن «يبات ما يصبح» لتجده سنة 1971، بكل رجاتها، و ماتلاها من رجات غيرها، في فرنسا خارج القبضة ..
صاعقة حب
في باريس، وبينما كان صاحبنا يهم بإشعال الصاعق لأول مواجهة مع النظام في خضم المحاولة الانقلابية الأولى، سيكون هو الآخر عرضة لصعقة غرامية من نوع فريد.. تهوي، الشابة الفيتنامية من قيادة شبيبة الفيتكونغ، ابنة أحد قادة الثورة الفيتنامية إلى جانب العم هو شي مينه والجينرال جياب.. هنا سيقترن ثائر المغارب بثائرة المشارق وينجبان أمين، 40 سنة دكتور في الاقتصاد، ريما وإيمان (تواصلان دراساتهما العليا بباريس).. هناك نصب صاحبنا «منصة صواريخه» أول قذيفة في اتجاه الرباط كانت كتابا استعرض فيه مختلف الفظاعات التي عاشها وكان ضحية لها أو التي واكبها ورصدها في تراكم ما سيشتهر فيما بعد ب «سنوات الرصاص»، وستتلو هذه القذيفة قذائف أخرى أثارت ضجة، في حينها، حول نظام الحكم.
ولقد كان طبيعيا أن تتحرك المصالح، والمصالح العليا فتتحرك «دولة الأنوار» وتبعد صاحبنا إلى الغابون، فيما سيصبح حدثا دوليا تابعته فضائيات العالم، لاسيما بعد أن أصبح قضية رأي عام خرجت له اعتصامات ومظاهرات صاخبة في باريس ..
ولقد رفض الديوري كل العروض البديلة بما فيها عرض السفير السويسري بالغابون، بمنحه اللجوء السياسي ببلده. كما أنه رفض التماس الرئيس الغابوني مجرد الرد على هاتف ابنه أمين وسط اعتصام باريس و ذلك «.. حتى تبقى الأزمة مشتعلة و يضطروا إلى التراجع عن القرار التعسفي»، حسب قوله، و هو ما تم فعلا بعد تفاقم المشكل ليعود إلى مقر إقامته بباريس، بعد 26 يوما كانت كافية لإسقاط مشروع فيليب مارشان وزير الداخلية الفرنسي ضد الكاتب منذ فشله في ثني هذا الأخير عن نشر الكتاب الذي لم تهدأ عاصفته حتى بدأت إرهاصات عاصفة جديدة مع كتاب جديد. أما كتاب «الخيانة العظمى» فقد علق نشره لتزامن إنهاء كتابته مع وفاة الملك الحسن الثاني سنة 1999، و حسب ما هو متوفر من معلومات فإن هذا المؤلف يتضمن نقدا، ليس للنظام وحسب و إنما للنخبة كذلك . تلك بإيجاز طبيعة العلاقة المتوترة بين الثائر بن الشهيد مع نظام الملك الراحل، لكن انتقال الملك جاء بتلطيف الموقف من النظام الجديد.. هل هي آمال شعارات «المفهوم الجديد للسلطة؟» هل هو مفعول التزامات عدم تكرار ما جرى؟ هل هو تغير في الموقف أم هو تكيف؟ هل الزمن فعل فعلته؟ هل هو كل هذا؟
لست نادما على أي شيء
قبل عودته إلى المغرب، وعند الحديث عن طي صفحة الماضي ووعود الإنصاف والمصالحة والتوجه للمستقبل، تم الاتصال بصاحبنا كواحد من أهم المعنيين باستحقاقات العدالة الانتقالية، لكن اشتراط اعتذاره برسالة مكتوبة مقابل تسلمه لجواز سفره جعله يستنتج أن الإرادة السياسية غير متوفر بعد، فما كان منه إلا أن أدار الظهر للعروض «التي لا تريد أن تشفى من المخزنة»، في اعتقاده.. غير أن الوزير السفير الذي اتصل واشترط، هو نفسه من سيتصل بعد فترة قصيرة من ذلك ليطلب من المنفي المعارض أن يختار أي قنصلية تناسبه لتسلم جوازه..
هكذا جاء ت العودة، و مومن الديوري، بعد كل هذه التجربة التي بدأها مع بنبركة وتشي غيفارا والفقيه البصري وشيخ العرب وبن بلا... وأنهاها بلقاءات مع جيمي كارتر وبيل كلينتون وغيرهما، لم يعد يساريا بالمعنى الماركسي اللينيني لسنوات الستينيات والسبعينيات ولا هو مستلب بالقوالب الجاهزة والنمطية للتنمية على أسس الثقافة الغربية .. «إن الحل لأزماتنا، كل أزماتنا هي في عمق ثقافتنا و ميراثنا الحضاري، إن الحل في الإسلام بما هو دين العقل والخلق و الحرية وكل القيم السامية والمثل العليا». هذه هي خلاصة عمر في تجربة رجل يقول «لست نادما على أي شيء في حياتي».
شيخ العرب المقاوم الشرس الذي عاش تحت رادار "كاب 1"وفضل الانتحار على الاستسلام
ولد أحمد (حماد) بن محمد بن إبراهيم بوشلاكن، المعروف أيضا باسم أحمد أكوليز، والذي اشتهر بلقب "شيخ العرب" أو "الحاج"، في سنة 1927 بدوار أكوليز من قبيلة إيسافن السوسية الواقعة بإقليم طاطا . في سن الثانية عشرة، سافر سيرا على الأقدام مسافة تزيد عن أربع مائة وتسعين كيلومترا، قاصدا مدينة الرباط ليساعد والده في محل التجارة. عمل احماد بعد ذلك في مدرسة جسوس طباخا ثم حارسا عاما في المرحلة الأولى من نشاطه النضالي الممتدة على مدى عقد من الزمن (بين سنتي 1944 و 1954.
في سنة 1951، تلقي عليه سلطات الاستعمار القبض. ويعيد التاريخ نفسه في حياته مرة أولى، ويغمره شعور من يعيش أحداثا سبق وأن وقعت (ديجا فو)، عندما تكون عقوبة المستعمر أن يعاود قطع نفس المسافة التي قطعها منذ اثني عشرعاما سيرا على الأقدام، مقيد اليدين مكبل الرجلين، في رحلة العودة لمسقط الرأس بدوار أكوليز، حتى يكون عبرة لكل من تسول له نفسه اختيار طريق المقاومة الشاق و الطويل...
في صيف عام 1954، في وقت بدأ فيه الصراع يحتدم بين رجال المقاومة والاستعمار، يلقى عليه القبض من جديد بتهمة حمل السلاح وتنظيم محاولات اغتيال. يرفض دفاع أحمد رضى كديرة في المحكمة، ويودع في سجن القنيطرة المركزي. في فترة السجن هاته، يكتسب أحمد أكوليز لقب شيخ العرب. ويكشف المناضل محمد لومة قصة هذا اللقب الذي ظل لصيقا بأسطورة الرجل فيما تبقى من أيام حياته وحتى من بعد مماته. حيث جاء في شهادته أن أحمد أكوليز أضرب عن الطعام عندما لاحظ أن بعض السجناء (من الرباط ، فاس ومكناس) يتمتعون بمعاملة خاصة ويأتى لهم بوجباتهم من أحد مطاعم المدينة على خلاف باقي السجناء. فما كان من رفاق السجن إلا أن أطلقوا عليه لقب "شيخ الإسلام" بسبب تدينه وحسن خلقه. لكنه رفض هذا اللقب، فبدلوه إلى "شيخ العرب".
على خلفية عودة محمد الخامس من المنفى ومفاوضات إيكس ليبان، تم إطلاق سراح السجناء المحظوضين (من الرباط ، فاس ومكناس). ديجا فو...ينال المغرب استقلاله. ولأن السجون ذات شجون، يظل شيخ العرب قابعا في زنزانته مع القابعين المغضوب عليهم من السوسيين والريفيين والبدو العرب. ينتظر شهورا ينفذ بعدها صبره، فينظم هروبه من السجن في ماي 1956، لتبدأ المرحلة الثانية من نشاطه النضالي.
لم يكن مرد نقمته على مغرب ما بعد الاستقلال راجعا لخيبة أمله في الحصول على وظيفة رجل أمن كما يدعي التاريخ الرسمي وأرشيف مكتب محاربة الشغب في المخابرات (على حسب ما ورد في كتاب (السر)، لمؤلفه أحمد البوخاري، العميل السابق في المخابرات المغربية، المشكوك في صحة شهادته). إنما كان متذمرا رافضا لما آل إليه وضع البلاد بعد شبه-الاستقلال وخيانة الساسة وعلى رأسهم حزب الاستقلال الذي قبل بتنازلات مفاوضات إيكس ليبان، حيث همشت فرنسا من المقاومين عمالقتهم واستدعت لطاولة التفاوض من الخونة أقزامهم. ولم تتوقف خيانة حزب علال الفاسي بسلبيته وانتهازيته عند هذا الحد، بل تحولت إلى خيانة فعلية عندما تحالف مع المؤسسة الملكية ضد مصلحة الشعب، وتتبع معها تتبع السفاحين السيكوباتيين فلول جيش التحرير والمقاومين الذين أبوا أن يضعوا السلاح إلا بعد زوال الاستعمار عن كل شبر من ربوع البلاد. وهكذا شارك حزب الاستقلال بصورة مباشرة في عمليات اغتيال ألمع النجوم في سماء التضحية الوطنية العاتمة، من قبيل عباس المسعدي (المسؤول عن جيش التحرير في الشمال) وأحمد الطويل (زعيم الهلال الأسود) وغيرهما كثيرون. ويروي مومن الديوري في كتابه (حقائق مغربية) في شهادة مؤثرة عن صديقه شيخ العرب، أنه رآه يبكي مرة واحدة عندما شاهد علال الفاسي في استقبال بالقصر الملكي كان ينقله التلفزيون المغربي وهو يركع للملك الراحل الحسن الثاني ليقبل يده.
يعيد التاريخ نفسه في حياة شيخ العرب عندما يرى أن المغرب "المستقل" يكافئ الخونة وعملاء الاستعمار بأرقى الرتب في أسمى الوظائف، على جهل بعضهم وأمية غالبهم، ويضع مستقبل الوطن على كف عفريت مصاب برعش باركينسوني؛ بوضعه ثقته العمياء في فساد إدارتهم وسوء تدبيرهم. ويُشرع في تشكيل الجيش الملكي بتجنيد الخونة وعملاء الاستعمار والذين رفعوا الراية البيضاء من جيش التحرير، ويؤطره مرتزقة الجيش الفرنسي من "أبطال ديان بيان فو". لم يجد شيخ العرب، بعد هذا كله، بدا من الانخراط في جيش التحرير الوطني بالجنوب في سنة 1957، بغية مواصلة الكفاح ضد الاستعمار واسترجاع الأقاليم الجنوبية.
جاء ردع ثورة الريف (1958-1959) بطريقة تفننت في الهمجية والوحشية لترسخ شيخ العرب في اعتقاده بأن مغرب ما بعد الاستقلال وما قبله مغربان متطابقان لا يختلفان إلا في التسمية. إذ استمرت معاناة الشعب وتراكم ضحايا الفقر والجوع والجهل والظلم والاحتقار والاستفزاز والاضطهاد والتهميش يوما بعد يوم، بعد أن فوض المستعمر للمخزن كل صلاحياته القمعية وسلطاته الاستبدادية.
تحول شيخ العرب إلى "أسطورة حضرية" يحبه أبناء الشعب الذين لا يتورع في أن يهب لنجدتهم والدفاع عنهم دون أن يعتد بحساب الأضرار وتدبير المخاطر، و يبغضه رجال الأمن الذين ما فتئوا يطاردونه محبطين مطاردة الأشباح بعدما أذلهم في أكثر من مناسبة بفلتانه الزئبقي وقدراته العبقرية في فنون الخداع و التنكر. ومن النوادر التي تروى عنه أنه استطاع عبور إحدى الثكنات بزي عسكري دون أن ينتبه إليه أحد.
تفاقمت سوابقه بتهم السرقة الموصوفة والإرهاب في ملف سمين عكف على تعليفه رجال الشرطة...في سنة 1959، قام باغتيال رجلين من جهاز الأمن بعدما اشتكى له أهالي منطقة سوس من بطشهما وتعسفهما (وكان أحدهما قاتل علال بن عبد الله، الصباغ البسيط الذي حاول اغتيال ابن عرفة في 11 شتنبر 1953)، كما أصدر حكما بالإعدام في محكمة شعبية بحق ضابطين من جيش التحرير اتهما بسلسلة من جرائم الاغتصاب في الجنوب. كانت قطيعته مع جيش التحرير حينها أمرا مستهلكا بعد أن تزايدت انتقاداته اللاذغة لزعمائه. فقام بتأسيس ما عرف بالجبهة المسلحة من أجل الجمهورية المغربية.
إثر هذه التطورات العنترية، أصدرت محكمة تارودانت في حقه حكما غيابيا بالإعدام، اضطره إلى أن يعيش تحت رادار "كاب 1" - جهاز الشرطة السرية- الذي جعل اقتفاء أثره أولى أولوياته منذ تأسيسه عام 1960.
في سنة 1962، يجتمع شيخ العرب على مضض بابن بركة في لقاء تاريخي نظمه صديقه مومن ديوري بعد أن نجح في إقناعه بأن التحالف مع الزعيم اليساري من شأنه أن يعرف بحركات الكفاح المسلح خارج الحدود المغربية ويمنحها تأشيرة الاعتراف الدولي في إطار أنشطة مؤتمر القرات الثلاث.
في سنة 1963، يفتعل المخزن مؤامرة ضد حياة الملك الحسن الثاني للتخلص من صداع رأس اليسار المغربي المؤرق وتصفية فلول جيش التحرير في الجنوب، وينظم محاكمة هوليودية يتلقى فيها شيخ العرب حكما غيابيا بالإعدام (بمعية ابن بركة) في 14 مارس 1964.
يلجأ شيخ العرب في ساعة البلبلة لجزائر ابن بلة بغية تلقي الدعم العسكري. لكن الرياح تأتي بما لا تشتهيه السفن وتتغير معطيات السياسة المغربية الجزائرية بعد انتهاء حرب الرمال بتوقيع السلام بين الحسن الثاني وابن بلة. وينزل الرئيس الجزائري عند رغبة رفاقه اليساريين من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذين سعوا جاهدين لإقناعه بأن يحتفظ بشيخ العرب بحجة أن عودته للمغرب ستشكل خطرا حقيقيا على حياة بعض أعضاء الحزب.
في أبريل 1964، يعود للمغرب سرا عن طريق ولاية بني أدرار الحدودية، برفقة عمر ناصر الفرشي- أحد زعماء شبكات المقاومة في الدار البيضاء- الذي سبق وأن تلقى حكما غيابيا بالسجن المؤبد بتهمة التآمر على حياة الملك في 1963، وحكما غيابيا آخر بالإعدام في (قضية بنحمو الفاخري).
وتأتي الخيانة من الأقربين -تماما كما توقع شيخ العرب وكان يروق له أن يردد على مسامع رفاقه في أكثر من مناسبة- حين أبلغ أحد أعضاء الكومندو صديقه بوعبيد بعودته. فيجتمع هذا الأخير بالمجلس التنفيذي لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ليقرر ببرودة إجرامية خيانة شيخ العرب وتقديمه قربانا للحسن الثاني على مذبح الحسابات السياسية. كانت هذه الخيانة رسالة صريحة للملك بأن زمان الكفاح المسلح (أو بلغة المخزن، الشغب والإرهاب) قد ولى، وأن اليسار يسار جديد تائب، ضد سراب الثورة والجمهورية ومع واقع الديموقراطية، كما يراها الملك، في إطار ملكية دستورية ديموقراطية اجتماعية.
في 7 غشت 1964، يطوق رجال الأمن البيت الذي كان يحتمي به شيخ العرب بسيدي عثمان ورفاقَه بدرب ميلان " حي عمر بالخطاب حاليا"، فيحدث تراشق بالأسلحة النارية مع رجال الأمن. يردى على إثره مبارك بوشوا قتيلا.و يصاب إبراهيم مسليل الحلاوي بجروح بليغة. ويختار شيخ العرب الموت "بالرصاصة الأخيرة" التي لطالما حدث رفاقه عنها. ويعيد التاريخ نفسه مرة أخيرة في حياته لتقفل الحلقة، حين يلفظ أنفاسه الأخيرة أمام دكان صغير لا يختلف كثيرا عن الدكان الذي ساعد فيه والده عندما قدم للدار البيضاء لأول مرة منذ ربع قرن تقريبا.
مومن الديوري/ مراجعات ممنوعة في كتب محظورة
مراجعات ممنوعة في كتب محظورة
قدر المغرب بين الملكية والجمهورية
يذهب مومن الديوري في كتابه (حقائق مغربية) إلى أن القول المتواتر في فولكلور التاريخ المغربي ودونكيشوتيات حاضره بأن الملكية هي الضامنة الوحيدة لوحدة المغرب فيه كثير من المغالطة والتزييف. ويذهب الكاتب أبعد من ذلك ليبرهن في الفصول الأولى من الكتاب على أن المغرب لم يعرف للوحدة طريقا إلا في ساعات صراع الشعب ضد الحكم المركزي الملكي.
يعتمد الديوري على مقاربة منهجية تعود بذاكرة القارئ إلى خطوات الملكية الأولى في المغرب، مرورا بحروب المنصور الذهبي والمولى إسماعيل الدامية ضد مغاربة استفحل فيهم الجوع والفقر والمرض، ومذكرا بمساومة عبد الحفيظ على استسلامه وتخليه عن العرش وبيع الملكية بشيك من قيمة مليون فرنك ودخل سنوي؛ قبل أن يندم -على حد ما جاء في شهادة ويليام هاريس في كتابه (المغرب المفقود)- لا على فعلته ولكن على عدم ابتزاز مزيد من المال والممتلكات تعويضا على رحيله. لا تكاد تسلم من تحليل الديوري دولة واحدة من الدول المتعاقبة على حكم المغرب. وليس ذلك بغريب على رجل خصص أكثر من كتاب لتصفية حسابات الشعب العالقة مع الملكية، وظل يناضل باستماتة مرورا بخانة السجن والمنفى في سبيل زوال “الملكية الدستورية الديموقراطية الاجتماعية” واستبدالها بالجمهورية.
وتذهب أطروحة الديوري إلى أن عدم قابلية الشعب المغربي لاختيار مصيره بنفسه و قصوره العضوي الوراثي نظرية ابتكرها وروج لها الاستعمار. وأن مقاربة (بلاد المخزن) المطمئنة في مواجهة (بلاد السيبا) مرتع الفوضى العارمة، تصوير بلاستيكي للواقع المغربي سرعان ما يتلاشى أمام استمرارية جيوب المقاومة على مدى التاريخ، في بلاد المخزن قبل بلاد المتمردين أو المقاومين، على حسب تموقع الؤرخ الإيديولوجي. أما هيمنة المخزن المفترضة، فلم تتضح معالمها بجلاء -في تحليل الكاتب- إلا بعد ما تلقاه من دروس الاستعمار الخصوصية في تقنيات وآليات التسلط الإمبريالي.
قدر المغرب بين نعمة علال ونقمة عبد الكريم
بعد نفي السلطان محمد الخامس بنصف ساعة؛ في العشرين من غشت 1953، يأتي تصريح علال الفاسي من إذاعة صوت العرب من القاهرة : “وإننا كزعيم حزب الاستقلال، وكواحد من علماء القرويين الذين لهم وحدهم حق انتخاب السلاطين. أعلن رسميا أن الملك الشرعي لمراكش كان وسيظل محمد الخامس. وأن ولي عهد المملكة الشريفة هو مولاي الحسن النجل الأكبر لسلطات مراكش.[...] وإنني أهيب بالشعب المراكشي أن يواصل كفاحه من أجل الغاية الوحيدة التي هي استقلال البلاد، وان يبذل معنا كل ما يستطيعه من الوسائل للذب عن كرامة ملكنا الشرعي، وإعادته إلى عرشه عالي الرأس موفور الكرامة.”
يصف مومن الديوري خطاب علال الفاسي من مكمنه في القاهرة بالدرامي ويشبهه بنداء دي غول في 18 يونيو 1940 على موجات إذاعة البي بي سي من نعومة المنفى في لندن. ويشير إلى تسرع زعيم حزب الاستقلال في ربط المقاومة بمحمد الخامس، في حين أنه كان للمقاومة شهداؤها من قبل حادثة النفي في عام 1953، والذين تجاهلهم عن قصد وبكل بساطة عندما صب كل اهتمامه على تمجيد السلطان ومعه سلالة العلويين. وتناسى أن الشريعة الإسلامية من جهة، والمؤسسة الملكية المغربية من جهة ثانية، لا تعترف بمبدإ ولاية العهد في مقابل مفهوم البيعة الذي يعين السلطان خادما للشعب لا العكس. وهكذا أراد علال الفاسي أن يقطف الملك ومعه البورجوازية التي يمثل الحزب مصالحها؛ ثمار الكفاح على حساب أرواح الشهداء من القوات الشعبية.
لم يحد المهدي بن بركة كثيرا عن هذا التحليل عندما اعترف في نقده الذاتي للحركة الوطنية في (الخيار الثوري في المغرب) بأنها ارتكبت خطأ فادحا بإقحام رمز الملكية الرومانسي في معادلة كفاح الشعب السريالي ضد الاستعمار الواقعي... لأن الطبقات الشعبية وحدها حملت على كاهلها عبء الصراع وتكاليف الخسارة في الأرواح.
ولا يفوت الديوري أن يستدرج ذاكرة القارئ في اقتفاء أثر تصريحات الزعماء الاستقلاليين من منفاهم في القاهرة وباريس ونيويورك، المشبعة بتشبتهم بالعمل الوطني السلمي ورفضهم لأساليب المقاومة المسلحة رفضا باتا. وتحولهم الانتهازي قبيل الاستقلال ومن بعده مائة وثمانين درجة مدعين أنهم “أمراء جهاد” وأنهم كانوا سباقين للدعوة للكفاح المسلح. مع أن حرب الاستقلال بدأت بدون حزب الاستقلال. وقد نكون أقرب إلى الصواب بقولنا أنها بدأت ضده، إذا ما اعتمدنا في حكمنا هذا على شهادات تاريخية -مما يستعسر إنكارها وتستحيل إعادة تأويلها- من رجال الحزب أنفسهم، وعلى رأسهم “أمير الجهاد” علال الفاسي. لكن الديوري لا يستغرب من تصرفات حزب ملكي أكثر من الملك، سعت عناصره البورجوازية منذ تأسيسه عام 1943 إلى رعاية مصالح طبقتها سعيا حثيثا. ولم تلتفت لمطالب يا أيها الناس حتى من بعد أن انظم للحزب مثقفون من عامة الشعب على شاكلة المهدي بن بركة، عبد الرحيم بوعبيد وعبد الله إبراهيم.
ويستطرد الكاتب في جرد جرائم الحزب التاريخية التي لا تعد ولا تحصى، وكيف كان يصول بعد الاستقلال في مغرب العبث والكيل بالموازين المقلوبة، فيجول ببيع بطاقات المقاومين لمن يدفع أكثر. إذ لم يكن من الغريب أن تجد عميلا قبل الاستقلال مقاوما من بعده، في حين يظل المقاومون يلهثون وراء “البطاقة” حتى توقفهم في جريهم رصاصة طائشة أو حادثة سير مروعة، بقضاء الله وقدره. ولم يكن من العجيب، في سوق يعرف ثمن كل شيء ويستهين بقيمة أي شيء، أن تدعي فاطمة أوفقير في كتابها (حدائق الملك) -والذي أدعو القراء بالمناسبة إلى توفير ثمنه لدفع فاتورة الماء والكهرباء- أنها وزوجَها “الجزار” كانا من السباقين للانضمام إلى صفوف المقاومة. أولعلنا لا نتسرع فنظلمها بزلة لسان خفيفة ونحاسبها على نكتة سخيفة، فربما كانت تقصد “مقاومة المقاومة”.
وهكذا تاجر أعضاء الحزب في بداية الستينيات في طبع بطاقات المقاومة، ومنحوها مع ما تخوله من امتيازات لذويهم. ومن أبنائهم من لم يشهد المقاومة لصغر سنه. ويشير ووتربوري بأسلوبه الذي لا تعوزه روح الفكاهة في كتابه (أمير المؤمنين) إلى أن إدارة المكتب الوطني للمقاومة عهد بها في 1966/67 لعبد السلام بن عيسى الذي قاوم الاحتلال عن بعد في باريس حيث كان يدرس القانون.
لم يكتف الحزب باغتيال الفنان القدميري الذي فضح (قضية البطاقات) في إحدى أغانيه الساخرة. بل تورط في عمليات تصفية ما يناهز خمسين رجلا من قادة جيش التحرير وأعضاء حزب الشورى والاستقلال من الذين قرروا تأسيس تحالف سياسي عسكري يهدف لقيام نظام جمهوري بالمغرب. كان تورطا مباشرا يتم باجتماع على مستوى القمة في الحزب بغرض “تدارس التصفيات حالة بحالة” قبل إعطاء الضوء الأخضر للغزاوي (مدير الأمن الوطني) ليكلف فرق القوات الخاصة المنتمية للشرطة بتنفيذ العمليات. بهذه الطريقة تمت تصفية عباس المسعدي (قائد جيش التحرير في الشمال، في يونيو 1956 حيث كان من المفروض أن يلتقي في “ظروف غامضة” بالمهدي بن بركة في فيلا بفاس)، عبد الله الحداوي (يقتل بطلقات مدفع رشاش في سيارته الفولكسفاكن على مشارف الدار البيضاء بعد عودته من اجتماع مع قادة جيش التحرير في الرباط و بعد لقاء غريب مع مختار اليوسي)، أحمد الطويل (زعيم الهلال الأسود)، عبد الله عبد الكريم، دريسي، الشرايبي، الأركي، يحيى لبار، إبراهيم الروداني وآخرين.
ثم يعود مومن الديوري بالقارئ إلى معمعة حملة التحضير لاستفتاء الشعب حول تبني أول دستور في تاريخ المغرب المستقل، والذي أشرف على صياغته فقيه القانون الدستوري و أستاذ علم السياسة الفرنسي موريس دوفيرجي بطلب من الملك. ويتذكر رسالة عبد الكريم الخطابي إلى المغاربة على موجات إذاعة القاهرة في الأول من دجنبر 1962...
إن دستورا لم تأتي به لجنة منتخبة لا يمكن قبوله، خصوصا أن الاستفتاء عليه يتم دون أن تمكن التعبئة” العادلة من ولوج للإعلام العمومي و إمكانية شرح كل وجهات النظر للمواطنين لا نريد أن نكون أضحوكة الدستور المصنوع للمغاربة مؤخرا، موضعا للمشاحنات، أو الخلافات، وان نكون هدفا للمنازعات والخصومات، ومحلا للجدل والهراء... بين أبناء الأمة المغربية. فمادامت الأمة المغربية أمة مسلمة تدين بدين الاسلام الحنيف، ومادام في البلاد من يفهم هذا الدين والحمد لله.. فمن السهولة بمكان ان نجد الحل الصحيح لكل ما يعترض سبيلنا في حياتنا الاجتماعية، بدون اللجوء الى التحايل، والى الخداع والتضليل. إن التنصيص في هذا الدستور المزعوم على (ولاية العهد) ماهو إلا تلاعب، واستخفاف بدين الاسلام والمسلمين... إذ كنا نعلم ان مسألة الإمامة نفسها كانت دائما موضع خلاف بين علماء الاسلام منذ بعيد، وما ذلك إلا لعدم وجودها في القانون السماوي. هذا في الإمامة. وإما في ولاية العهد فلا خلاف انها (بدعة) منكرة في الاسلام، وكلنا يعلم ان مؤسسها معروف، ونعلم من سعي في خلقها في ظروف معينة، ولغاية معلومة.. فإذا كانت مخالفة للشرع الاسلامي فلا محالة ان تكون موضع (تهمة).. ويقول إمام المذهب مالك بن أنس (ض): «ليس من طلب الأمر، كمن لا يطلبه». وذلك لأن الطلب يدل على الرغبة، والرغبة تدل على (التهمة) وعدم الطلب يدل على الزهادة والنزاهة. ثم إن ولاية العهد إذا كانت مفروضة قسرا، فلا تلزم المسلمين، إذ من المعلوم ان كل بيعة أو يمين كانت بالإكراه تكون باطلة. إذا كانت الأمة المغربية، أمة مسلمة.. فلابد لحاكمها المسلم أن يكون مطيعا لله، وبالخصوص فيما بينه وبين الأمة المسلمة، وعليه أن يستشير المسلمين في كل الأمور، عملا بقوله تعالى «وأمرهم شورى بينهم»، وبقوله في آية أخرى «وشاورهم في الأمر» فأين نحن من مضمون هاتين الآيتين الكريمتين، وكيف نوفق بينهما وبين من يريد الاكتفاء بالتحايل وخداع الأمة في أمر الشورى وغير الشورى...؟ لاشك أن التهمة موجودة وواضحة بشأن هذا الدستور المزعوم.. كلنا يعلم ان الرسول الكريم (ص) أمر باستشارة جماعة المسلمين، رغم كونه (ص) مؤيدا من عند الله بالوحي، ومعصوما والله يعلم عصمة نبيه وحبيبه ومع ذلك الامر، يأخذ رأي الجماعة، وذلك للتسنين. فالحاكم المسلم بمقتضى الآيتين مأمورا أمرا وجوبيا باستشارة الأمة من غير أن تطالبه بها.. فكيف بحاكم يريد ان يخدع الأمة، في الوقت الذي تلح فيه هي في طلب الاستشارة؟ لقد نادى المغاربة بالدستور بعد ان فقد العدل، وبعد ان سيطر الجور والظلم والطغيان، ظنا منهم أنهم سيجدون (العلاج) في الدستور، فإذا بهم أمام كارثة أخرى أدهى وأمر مما سبق.. إن المغاربة لا يحتاجون الى دستور منمق بجمل وتعابير، تحمل بين طياتها القيود والأغلال.. إنهم يريدون تطبيق دستورهم السماوي الذي يقول: إن الله يأمر بالعدل والإحسان.. يقول «وإذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل»، وغير ذلك من الآيات الكريمات التي جاءت دستورا سليما للأمة الاسلامية. وأما من خالف هذا الدستور فقد قال فيه القرآن الكريم: «وأما القاسطون فكانوا لجنهم حطبا»... ويقول الرسول الأكرم (ص): «إن أعتى الناس على الله، وأبغض الناس الى الله، وأبعد الناس من الله، رجل ولاه الله أمر أمة محمد، فلم يعدل فيهم».. ويقول عليه الصلاة والسلام: «من مات غاشا لرعيته، لم يرح رائحة الجنة»... ولا نكون من المغالين إذا قلنا، ان هذا الدستور المزعوم، قصد به في الحقيقة تطويع الشعب المغربي وترويضه طوعا أو كرها حتى يصبح معتقدا بأن حكام البلاد يحكمون بتفويض من الله.. وهذا شيء يتنافى مع (معتقد) الأمة الحقيقي. إذن، فخير، لواضعي الدستور المزعوم ان يرجعوا الى الجادة المستقيمة حتى لا يتسببوا في الكارثة، ويكونون هم (الجناة). وبهذه المناسبة أوجه ندائي الى الشعب المغربي كله، في قراه وحواضره وبواديه أن يتنبهوا للخطر الماحق الذي يهددهم عن طريق هذه اللعبة المفضوحة، فليس هناك دستور بالمعنى المفهوم للدساتير، وإنما فقط هناك (حيلة) ولا أظن ستنطلي عليهم.. فقد شاهدوا مثيلات لها فيما مضى.”
تعود بنا ذكرى هذه الرسالة – وقد حالفنا الفشل في تجنب استنساخها كاملة- بواقعيتها “التشريحية” وصراحتها “التي تسمي الأشياء بمسمياتها” إلى المستقبل، متخطية حاضر المغرب وقد عج بقصور شرائح واسعة من المواطنين غلب عليهم النعاس واللامبالاة وأثقل عليهم نفاق الأحزاب السياسية وانتهازيتها المعهودة.
تتقابل شخصيتا عبد الكريم وعلال الفاسي تقابلا قطريا في مواجهة الاحتلال وفي تغليب المصلحة العامة على المنفعة الخاصة. كافح الأول في جبهتين ضد الإسبان، وضد الفرنسيين بمباركة مولاي يوسف الذي باح للجنرال جوان -وقد أتى لتعويض إدارة ليوتي الكارثية للعمليات العسكرية- بأمنيته الدفينة “خلصنا من هذا المتمرد !”، قبل أن يتبخر حلم سنوات الجمهورية (الريف-وبليك -1925/1926) وقبل أن يخمذ الجنرال أوفقير نار الثورة (الريف-ولسيون -1958/1959) بعد استقلال المغرب الشكلي. بينما سعى الثاني إلى التحالف مع المؤسسة الملكية ضد مصلحة الشعب طمعا في التهافت على ما يتصدق به عليه من فتات كعكة السلطة ونواة الكرزة التي تزينها.
وتمتد حدود الاختلاف بين الرجلين إلى تراكيب اللغة واختيار المفردات، عندما يلتقيان في منفاهما بالقاهرة في سنة 1947، ويقاطع عبد الكريم الخطابي قول علال الفاسي “كان هذا أثناء فترة التمرد في الريف...” مصححا “لماذا تقول (تمرد) ؟! إنها كانت حرب تحرير ضد الاستعمار ودفاعا عن الشعب.”
http://gibraltarblues.blogspot.com
الجمعة، 15 يناير 2021
انتظار الامهات والزوجات والابناء ظهور الحقيقة/زوجة الشهيد احمد بنموسى برهيش
انتظار الامهات والزوجات والابناء ظهور الحقيقة/زوجة الشهيد احمد بنموسى برهيش
لمتابعة المقال كاملا
© انتظار الامهات والزوجات والابناء ظهور الحقيقة/زوجة الشهيد احمد بنموسى برهيش - مدونة نور الدين رياضي للعمل السياسي والنقابي والحقوقي
المصدر: https://www.riadinoureddine.com/2018/09/blog-post_10.html
من معاناة عائلات المعتقلين السياسيين/ثريا السقاط ومحمد الوديع الاسفي
من معاناة عائلات المعتقلين السياسيين/ثريا السقاط ومحمد الوديع الاسفي
© من معاناة عائلات المعتقلين السياسيين/ثريا السقاط ومحمد الوديع الاسفي - مدونة نور الدين رياضي للعمل السياسي والنقابي والحقوقي
المصدر: https://www.riadinoureddine.com/2018/09/blog-post_25.html
الأحد، 10 يناير 2021
سيرة رجل سلطة : الحسن مختبر .. من لاعب كرة قدم إلى التنظيم السري المسلح 17 : تعرضت للتعذيب في درب مولاي الشريف وجزء كبير من المعتقلين كان من قادة الاتحاد الوطني
سيرة رجل سلطة : الحسن مختبر .. من لاعب كرة قدم إلى التنظيم السري المسلح 17 : تعرضت للتعذيب في درب مولاي الشريف وجزء كبير من المعتقلين كان من قادة الاتحاد الوطني
في سياق توثيق الذاكرة السياسية لمغرب الستينيات والسبعينيات، واحتفاء بالأسماء التي أدت ضريبة النضال من أجل التقدم والديمقراطية، نستعيد في هذه الصفحات مقاطع من سيرة المناضل مختبر الحسن، المحامي ورجل السلطة، الذي فرح بالحكم عليه بالمؤبد لأن قبله تناثرت أحكام الأعدام ونفذت بعد ذلك.
انطلاقا من مرحلة النشأة والتكوين بدرب الكبير بالدارالبيضاء، مرورا بالتحاقه بالدرس الجامعي، وتحديدا بخلايا الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ثم لاحقا بالعمل كقائد بمنطقة واد لاو بشمال المغرب، السيرة تبرز التفاصيل: لقاء الحسن الثاني- لقاء عمر دهكون – الفقيه البصري – اغتيال الجنرال أوفقير – زيارة الشهيد عمر بنجلون في السجن وبعد الطرد الملغوم، ويروي لنا قصة باخرة السلاح التي لم تتمكن من دخول بحر شمال المغرب لأسباب لوجيستية، وقائع الاعتقالات والمحاكمات، اغتيال الشهيد المهدي بنبركة، النقاشات داخل الحقل الطلابي وما ترتب عنه من جدل بين مكونات اليسار المغربي وتفاعلات الانقلاب العسكري وانتهاء باستراتيجية النضال الديمقراطي التي آمن بها أشد الإيمان ومازال لم يبدل تبديلا عنها داخل صفوف الاتحاد الاشتراكي بكل تواضع وإيمان … عضو نشيط في التنظيم السري المسلح، واضع خرائط قيادة ومحيطها بالجنوب… رجل يحب الفن والثقافة ولاعب كرة القدم الذي تغير مساره للكفاح المسلح..
كيف كان التعذيب ؟
تميزت فترة الاعتقال بدرب مولاي الشريف بعذاب وحشي من أجل الاعتراف بـ « مكان اختباء الأسلحة «. كان المشرف المباشر على التعذيب هو الكوميسير قدور اليوسفي. أول شيء مورس علي في البدء هو الكهرباء في جميع مناطق الجسد، مروا بعد ذلك إلى الضرب والفلقة والتعلاق والطيارة وقطع النفس بالشيفون ومواد كريهة . وحين يشتد بي التعذيب، الذي يصل حد الاختناق والشعور باقتراب الموت، أقول لهم « سأخبركم بمكان السلاح «، وأشرع في استرجاع التنفس من جديد محاولا التمويه لكي يتوقفوا عن التعذيب الذي كان قاسيا جدا. كان السؤال الذي يطرح علي يخص السلاح فقط: « أين هو؟ «. استغرق التعذيب مدة شهرين ونصف الشهر تقريبا بشكل متقطع، كان يمتد بعض المرات إلى ثلاثة أيام .
هل كان التعذيب نفسه يشمل جميع المعتقلين ؟
في إطار التحقيق مع كافة المعتقلين، بلغني في ما بعد، عندما جاء دور أخينا
محمد اليازغي، وكان أثر الطرد الملغوم لايزال على جسده ويده تحمل الجبيرة، قال له الكوميسير اليوسفي « أنت لا تحتاج إلى تعذيب، بل إلى كشف الأوراق Carte sur table «.
فرد عليه الأخ محمد اليازغي بكلمة ذات مغزى وبحمولة غاضبة ، « ها هي أوراقي « ومد يده المصابة فوق الطاولة وأجاب «من الذي أرسل لي هذا الطرد الملغوم ليقتلني، أما التفاصيل الأخرى فلا تهمني…» .
خلال استنطاق باقي المعتقلين كانوا يرهبونهم بما كان تعرض له عمر بنجلون، كالرمي في البحر، لكي يعترفوا بالتهم الموجهة إليهم .
بعد الفترة التي استغرقها التعذيب الوحشي داخل كوميسارية درب مولاي الشريف ، شرعوا في فرز عدد المعتقلين الذين أحيلوا على المحكمة العسكرية بالقنيطرة ( محاكمة غشت )، وصل العدد إلى 159 وعبد الرحيم بوعبيد كشاهد ليصل العدد ككل إلى 160. كان جزء كبير من المعتقلين يتشكل من قادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية يتقدمهم اليازغي، بنجلون، كرم، الحلوي، القرشاوي، الدكتورعمرالخطابي ابن امحمد الخطابي شقيق القائد التاريخي للشعب المغربي البطل محمد بن عبد الكريم الخطابي …
تم إيداع المعتقلين السجن المركزي بالقنيطرة. بإحالتنا على المحاكمة، خففت المعاناة حيث تمت إزالة « البانضة » والقيود وبدأنا نلتقي بعضنا البعض. وبعد الخروج بغرض الذهاب إلى المحكمة العسكرية، كانت تضرب علينا حراسة مشددة تتكفل بها طائرة هليكوبتر تصحبنا حتى المحكمة .
كيف كانت المحاكمة ؟
كانت محاكمة عالمية تتبعها العديد من المحامين الدوليين للتضامن معنا ومؤازرتنا ( من تونس، الجزائر، فرنسا مثلا )، المحامي امحمد بوستة، الأمين العام لحزب الاستقلال سابقا، ومحمد الناصري وعبد العزيز الخالدي رحمه الله والأستاذ الزعري وعبد الرحمان بنعمرو من هيئة الرباط وغيرهم . تفرق الدفاع من أجل الإنابة عن مجموعة من المعتقلين، كما تتبعت محاكمتنا القنوات الإعلامية والصحافة الدولية.
الكاتب : مصطفى الإدريسي
الخميس، 7 يناير 2021
رحيل المقاوم امحمد فوزي شقيق الشهيد شيخ العرب في طنجة...
رحيل المقاوم امحمد فوزي شقيق الشهيد شيخ العرب في طنجة...
في صمت غادر هذا العالم المناضل امحمد فوزي شقيق الشهيد شيخ العرب المقاوم والمناضل المعروف في صفوف جيش التحرير وفي صفوف الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ورفيق المجاهد محمد الفقيه البصري والمجاهد محمد بنسعيد أيت يدر والمناضل مومن الديوري والشهيد المهدي بنركة فيما بعد. وعُرف بتصفيته للمدعو "كْويزا لاسورطي" الخائن الذي قتل الشهيد علال بن عبد الله.
يعتبر شقيقه المقاوم امحمد فوزي أحد المناضلين الذين لعبوا دورا كبيرا في مقاومة الاستعمار الفرنسي حيث اعتقلته قوات الاحتلال الفرنسي سنة 1954 عقب اشتباك مع فرقة من مرتزقة "الكوم". وبعد الاستقلال تم الإفراج عنه، ليلتحق بعمله في الشرطة عقب إدماج عناصر جيش التحرير في مؤسسات دولة الاستقلال.
ولم يكن لأحد أن يلتفت إلى رحيله لولا متابعة الصديق محمد لومة لأخبار هذا الجيل الفريد من المناضلين.
التقيتُ المناضل امحمد فوزي قبل حوالي خمس سنوات أثناء زيارتي له في بيته في شارع فاس بمدينة طنجة الذي بقي يقطنه مع أولاده منذ اسقراره في طنجة منذ مطلع الستينات حتى الآن، وكان برفقتي الأستاذ محمد الروين، ليحكى لنا قصصا مروعة عاشها مع عائلته في مواجهة النظام القمعي الذي بناه الحسن الثاني حينها.
عانى كثيرا من الجلاد أوفقير والدليمي عقب اشتداد مطاردة المناضل القائد شيخ العرب (أحمد أكوليز)، حيث قام أوفقير بإعفائه من عمله وسحب بذلته الرسمية ومسدسه، قبل أن يقوم بنقله تعسفا إلى مدينة طنجة لإبعاده عن الرباط، وهناك سيتم اعتقاله في 11 يونيو 1964، وهو الاعتقال الذي خضع أثاءه لتعذيب رهيب (سجلته الإدارة العامة للأمن الوطني على أنه تكليف بمهمة !!!).
كان اعتقاله أو بالأحرى اختطافه في طنجة من طرف بعثة من جهاز "الكاب 1" سيئ الذكر جاءت من الرباط لإحضاره في أربع سيارات، بهدف الضغط عليه للمساعدة في اعتقال شقيقه المقاوم والمناضل الكبير شيخ العرب. ليوضع أمام مكتب يجلس فيه الجلاد محمد أوفقير الذي سأله عن مكان وجود شقيقه، متهما له ب"انتمائه لعائلة من الخونة، أعداء الملك والوطن". وحين رد عليه المرحوم امحمد فوزي بأنه يرفض اتهامه وعائلته بالخيانة فتح درجا في مكتبه وأخرج منه سلاحا رشاشا (مثلما توقع الراحل فوزي الذي استلقى منبطحا على الأرض)، حيث قام المجرم أوفقير بإفراغ رصاصاته في اتجاه المكان الذي كان فيه فوزي ماثلا أمامه.
وبعدها امتلأ مكتب الجلاد أوفقير بأسماء من فريقه مثل أحمد الدليمي الذي حاول أن يقنع امحمد فوزي بالعمل جاسوسا مع الأجهزة لاعتقال أخيه ورفاقه المطاردين، وحين رفض تعرض لوجبات متتالية من التعذيب في المعتقل السري "دار المقري"، وبعد ذلك تم نقله إلى معتقل آخر لا يقل سوءا ورهبة، هو معتقل "درب مولاهم الشريف" حيث تناوب على تعذيبه بشكل جنوني الجلادون المعروفون: محمود عرشان، عبد القادر صاكة، السبع، الكرواني، المعطي، الصايغ... بأساليب وحشية نتج عنها تكسير أضلاع أربعة من قفصه الصدري ليتم نقله إلى مستشفى الصوفي لتلقي العلاجات تفاديا لوفاته التي كانت أقرب إلى الوقوع.
في المستشفى بالطبع سيزوره شخصان بلباس رسمي (لباس المخازنية) أحدهما هو المقاوم أحمد النجار (أزناك)، وثانيهما لم يكن إلا شقيقه المطارد شيخ العرب الذي حضر أيضا بنفس اللباس الرسمي دون أن ينتبه لذلك حراسه، وكان لقاء أخيرا مع شقيقه، سأله عن أمهما ووضعها الصحي وأبنائه وأبو زوجته وشقيقه المقاوم الآخر مبارك (وقد كانوا جميعا معتقلين للضغط على شيخ العرب للاستسلام)، قبل استشهاده وقتله في نفس اليوم من طرف الجلاد محمود عرشان، ثم دفنه في قبر مجهول بدون اسم، حيث لا تعرف عائلة هذا الشهيد الكبير قبره حتى الآن.
ليظل المرحوم امحمد فوزي بعدها معتقلا إلى أواخر غشت 1964، ولم يسترجع سلاحه الرسمي وبطاقته المهنية إلا أواخر 1965.
وبعد استشهاد شقيقه شيخ العرب تكلف الراحل امحمد فوزي بتربية أبناء شقيقه، توفيق ونادية حتى بلغا مستويات عليا من التعليم، حيث يقيمان اليوم ويشتغلان في فرنسا.
عاش الراحل امحمد فوزي عفيف النفس، متواضعا لا يتحدث عن نفسه ولا عن مساهمات أسرته في النضال من أجل الاستقلال ومجابهة الفساد والاستبداد بعده، حالِماً بمغرب تسوده العدالة والمساواة واحترام الكرامة الإنسانية التي لم تراعها هيئة الإنصاف والمصالحة أثناء معالجة قضيته، كما صرح لي بذلك.
المعتقل السياسي العبدلاوي عن أحداث 59 رحل عن هذه ا...
الأربعاء، 6 يناير 2021
الانتفاضات السياسية في مغرب "الثورات الموْؤودة" محمد زاهـد
الانتفاضات السياسية في مغرب "الثورات الموْؤودة"
محمد زاهـد
عديدة هي المحطات التي تؤثت شريط الذاكرة الوطنية وتشكل أساس الوعي المغربي المعاصر.. وهي المحطات التي مازالت تئن تحت وطأة النسيان والتناسي وتتعرض للتجاهل والتعتيم.
بالعودة الى قراءة مختلف صفحات التاريخ المغربي المعاصر، سنجد ان مجموع الأحداث والوقائع التاريخية والسياسية، وكل ما يؤسس للذاكرة الوطنية والجماعية، هو في حاجة ماسة الى مزيد من القاء وتسليط الأضواء عليه واغناء رصيد الكتابات حوله.
وكما جاء في تقديم كتاب “دار بريشة: قصة مختطف”، لصاحبه المهدي المومني التجكاني، فقد عرف المغرب أحداث أليمة غداة الاستقلال يجهلها جميع من ولدوا سنة 1955 أو بعدها ولا ينبغي السكوت عنها لأنها تمثل صفحة مهمة في التاريخ المعاصر”.
وتعتبر فترة مابين (1960-1956) من أبرز الفترات، على مستوى التاريخ السياسي المغربي المعاصر، غموضا وتداخلا، بحكم ما يميزها من ملابسات عديدة ومختلف مظاهر الصراع السياسي والمناورات الحزبية والدسائس المخزنية. كما أنها فترة كانت محكومة بسياق سياسي وظروفية تاريخية خاصة وبسيادة وضعية ثقافية واقتصادية واجتماعية وسياسية استثنائية، شكلت أهم عوامل ودوافع قيام العديد من الانتفاضات” والثورات الموؤودة”.
انتفاضة الريف (1958-1959)
تعتبر” ثورة الجلاء” من أبرز الأحداث والوقائع التي شهدها المغرب خلال هذه الفترة، وذلك بالنظر لكونها حدثا سياسيا اتسم بالقوة في ظل ظرفية تعد من أهم الفترلت الحاسمة في تاريخ المغرب المعاصر، ولما طبعها من رهانات وحسابات وما ميزها من مظاهر التدخل الوحشي.
والواقع، فانتفاضة الريف (58-59)، أو عام “اقبارن”، كما تعرف لدى أهل وأبناء المنطقة، هي من المواضيع التي يغيبها التاريخ الرسمي، واخر فصول هذه التغييب التجاهل الذي تعرضت له ضمن الاجراءات والتدابير المفترض أنها أسست لعملية”المصالحة الوطنية “ولعملية تأثيث وترميم الذاكرة الجماعية، وهي فصول التغييب التي حدثت مع تقرير ” هياة الانصاف والمصالحة” وما تلى ذلك.
وعودة الى حيثيات وملابسات اندلاع هذه الانتفاضة التي شكلت أهم العناصر التي كانت تبعث على القلق والتمرد والسخط، نشير الى ما أورده، القائد محمد سلام أمزيان، زعيم هذه الانتفاضة، اذا يقول.” فالحقيقة المرة التي تحز في قلوبنا وتفتت أمالنا هو الاهمال الفطيع الذي تمارسه الدولة تجاه معالجة الموقف في هذه المنطقة المهددة (..) فلماذا هذا الاهمال؟ نستغيث لا لضعف ولا لجن وانما للمحافظة على الوحدة الوطنية كي نصمد جميعا أمام العدو الاجنبي المهيمن بجيشه ومخباراته على القضية المقدسة .
لقد عاش المغرب الخارج لتوه من لحظة الاستعمار، أحداثا جد أليمة تحولت معها بهجة وفرحة” الاستقلال” الى لحظات عصيبة عكستها مظاهر الوضعية العامة التي كانت سائدة انذاك والتي تمثلت في بروز مواقف الرفض والغضب وخيبة الامال والاستياء، ذلك أن الاستقلال الذي راهن عليه المغاربة ليس هو ذلك الاستقلال الذي حصل عليه المغرب. الاستقلال الذي يتناسب وحجم طموحات وتضحيات وكفاح الشعب المغربي.
إن اتفاقية ايكس ليبان التي منحت من خلالها فرنسا للمغرب استقلاله الشكلي وعبرها كل الاجراءات التي مهدت لهذه المفاوضات مثل تأسيس مجلس العرش (17-10-1955) وعودة السلطان محمد الخامس (16-11-1955) وتشكيل أول حكومة برئاسة مبارك البكاي (07-12-1955) وصدور الاعلان المشترك الذي أعلن استقلال المغرب( 02-03-1956)، ثم إعلان ( 07-04-1956) فيما يخص منطقة الاستعمار الاسباني بالشمال، كل ذلك كانت له تداعيات على مغرب مابعد هذه الفترة، وبالتالي فتح الباب على مصراعيه لبروز مواقف متناقضة واتجاهات متعددة بحسابات مختلفة، وكذا ظهور صراعات وتقاطعات حزبية وسياسية بين شتى الفاعلين والأطراف القائمة انذاك، لاسيما بين أنصار خيار استكمال معركة التحرير الشامل عبر نهج الكفاح المسلح حتى الجلاء التام وتحقيق الاستقلال الكامل، وهو الموقف الذي عبرت عنه خصوصا فصائل جيش التحرير، وبين انصار خيار المفاوضات المتكون من العناصر التي فاوضت فرنسا في شان مصير المغرب.
واذا كانت هذه هي أهم مظاهر الاحتقان السياسي في المغرب خلال تلك الفترة، فان أبرز ما أجج هذه الوضعية التداعيات التي انعكست في صورة انفجار عام للوضع السائد كنتاج للعامل الاول المتمثل في السخط والغضب وخيبة الامال، خاصة مع بداية مسلسل الاغتيالات السياسية والتصفيات الجسدية والاختطافات التي اقترنت اساسا ب” الالة الحزبية المستبدة”، وهو ما جعل المغرب يعيش فترة سوداء بكل المقاييس.
علاوة على ذلك، فان ما آلت اليه الوضعية العامة بالمغرب لم تكن باعثة على كل تلك الاضطرابات، لو لم تتظافر عوامل أخرى منها أساسا تعفن الوضعية الادارية وافتقاد القضاء للنزاهة والاستقلالية وسيادة الإبعاد والاقصاء من المشاركة في وضع القرار السياسي وحق التمثيل في دائرة مركز القرار وحق التوزيع العادل للثروة الاقتصادية والسياسية، وكذا سعي الدولة الى فرض وحدة سياسية وثقافية واقتصادية قسرية وجاهزة على النمط الفرنسي في وقت كانت فيه منطقة الريف تتميز بخصوصيات مخالفة تماما لما كان سائدا بالجنوب لغويا وثقافيا وسياسيا واجتماعيا.
ومن جهة اخرى، فقد تميزت منطقة الريف بانتشار الفقر المدقع والجفاف ووجود الخصاص وسيادة الظلم والحيف لاسيما أمام الوضعية الهشة والضعيفة الموروثة عن عهد الاحتلال الاسباني. اضافة الى وجود عوائق بنيوية واكراهات متعددة. يقول قائد هذه الانتفاضة، محمد سلام أمزيان، حول مجموع هذه الأسباب: “لقد وجدنا كل الملابسات تدعونا الى القيام بهده الحركة لانقاذ الوطن من الانهيار، وإلا فسوف لن يرحمنا التاريخ والأجيال الصاعدة”.
أما محمد بن عبد الكريم الخطابي، فيلخص أسباب تحول المغرب الى ساحة فظيعة لتصفية الحسابات وممارسة التنكيل والاختطاف، حسب الباحث محمد أمزيان، الى سياسة الظلم والرشوة والاستبداد ضد الحكم والتعصب الحزبي الأعمى والحالة الاقتصادية المرتبكة وبقاء الاحتلال الفرنسي وعدم الجلاء التام(…).
ويضيف الامير الخطابي في رسالة مؤرخة بتاريخ 27 يوليوز 1960 ان المسؤولية كلها تقع على الذين توالو الحكم وزمام الامور في البلاد منذ ان ابتلينا لا بالاحتلال ولكن بكلمة الاستقلال (…).
أحداث تافيلالت(1957)
تعتبر هذه الأحداث أول حدث سياسي وتاريخي شهده المغرب مباشرة بعد الاعلان عن استقلاله. وقد تزعم هذه الأحداث العامل عدي او بيهي بمنطقة الجنوب الشرقي (تافيلات) ضد” دسائس حزب الاستقلال”.
يقول الكاتب الامريكي جون واتربوري حول هذا الحدث.” أقدم عدي اوبيهي في 17 يناير كانون الثاني من سنة 1957 بعد أن حصل على اسلحة بواسطة ضباط فرنسيين على اغلاق مكتب حزب الاستقلال بيمدلت وسجن جميع المذنبين في رأيه بمن فيهم ضباط الشرطة والقاضي ووضعت ميدلت والريش وهما في قلب الاقليم في حالة دفاع وأعلن عدي اوبيهي أن همه الوحيد يكمن في الدفاع عن العرش وحمايتة من دسائس الحكومة. ونظرا لغياب الملك أرسل الأمير مولاي الحسن كتيبتين من الجيش الملكي لاعادة النظام. وبعد مدة قصيرة استسلم العامل المتمرد حيث وعده الجنرال الكتاني بالامان”.
بعد أن تم القضاء على هذه الأحداث اعتقل عدي اوبيهي ومن معه، وقد وصل عدد هؤولاء المعتقلين الى 47 معتقل، كما ظلت أطوار محاكمة عدي اوبيهي ممتدة مابين 1957 و1959 قبل أن يموت مسموما بمستشفى ابن سنة 1961. أما الحين اليوسي فقد فر الى اسبانيا قبل أن يعود الى المغرب سنة 1963. في حين كان الوحيد الذي نفذ فيه حكم الاعدام هو القائد الممتاز موحا أوهرا.
يقول مبارك ايت رحو نجل عدي اوبيهي حول ملابسات هذه الاحداث: “لقد كان هناك صراع طويل بين حزب الاستقلال والوالد الذي توصل بعدة شكايات بخصوص الضغوطات التي كان يمارسها الحزب على المواطنين. لقد حاول حزب الاستقلال السيطرة وتوجيه العامل لخدمة مصالحه الا أنهم لم يفلحوا في ذالك حيث كان عدي اوبيهي يدافع عن القبائل ويقف في وجه بطش الحزب.
في مقابل ذلك فقد نشرت جريدة العالم، لسان حال حزب الاستقلال، في عددها الصادر بتاريخ 14 يناير 1959 مايلي: ” انتهت محكمة العدل بالرباط خلال الأسبوع الماضي من البحث مع المتهمين الذين يزيد عددهم على 72 متهما معظمهم كان عليه أن يجيب على تهمة المس بالامن الداخلي للدولة وتسليح القبائل للقيام بثورة مسلحة”، ومن أبرز الملابسات المحيطة بقيام واندلاع هذه الأحداث الدور المفترض لبعض الشخصيات في مجريات الأمور آنذاك وهو الأمر الذي يسميه الباحث مصطفى اعراب ب” مؤامرة القواد” منهم احرضان، البكاي، اليوسي، الخطيب..
أحداث والماس (1958)
عرفت منطقة الاطلس المتوسط ،وتحديدا اولماس، سلسلة اضطرابات وأحداث مماثلة ومأساوية وتزعمها ابن الميلودي. وقد جاءت هذه الأحداث في سياق ماكان يعيشه المغرب من وضعية خاصة على جميع المستويات. وعودة الى حيثيات الوقائع التي شهدتها هذه المنطقة فانها تلتقي في عناصر معينة مع مثيلاتها من الأحداث الأخرى، أهمها السخط العارم ضد الوضعية التي وجد عليها المغرب بعد سنة 1956 وهيمنة الحزب الوحيد ومظاهر الاحتقان السياسي.
يقول مصطفى أعراب في كتابه “الريف بين القصر حزب الاستقلال وجيش التحرير”، حول هذه الاحداث “(..) إلا أن ما حدث هو أن القوات المسلحة الملكية هرعت مباشرة نحو والماس لسحق حركة ابن الميلودي وموحا اوحدو في بني وراين”.
لقد كان مصير هذه الانتفاضات والأحداث والتمردات السابقة مصيرا مشتركا تجلى في ما تعرضت له المناطق التي ارتبطت بها هذه على الوقائع، أهمها الريف والأطلس المتوسط والجنوب الشرقي. علاوة على أحداث تاهلا وايت وراين بقيادة موحا حدو ابرشان ومسعود اقجوج بتازة واكزناية وأحداث ايت ازناسن وصفرو وجرادة ومناطق متعددة أخرى تعرضت لكل أصناف القمع والعقاب الجماعي والإقصاء السياسي والتهميش الاقتصادي والاجتماعي.
لقد كانت هناك عدة قضايا شائكة ومترابطة وإشكالات معقدة تتعلق كلها بمجريات الأمور والتناقضات والأحداث التي عرفها المغرب بعد .1956 وحتى تتجلى صورة وحقيقة ملابسات الماضي الأليم، لابد من رفع غطاء النسيان والإهمال عن أهم المحطات التي ترتبط بهذا الماضي حتى يمكن لنا على الأقل أن نخطو خطوات على درب مسلسل المصالحة الحقيقية والتأسيس للعدالة الانتقالية ولمستقبل وغد واعد.
الثلاثاء، 5 يناير 2021
الشهيد عبد الرحيم إينوس
الأحد، 3 يناير 2021
شيخ العرب.. متمرد أرهق المخابرات وتحول إلى “أسطورة”
شيخ العرب.. متمرد أرهق المخابرات وتحول إلى “أسطورة”
الحلقة الثالثة عشرة: شيخ العرب.. متمرد أرهق المخابرات وتحول إلى “أسطورة”
لا تحتاج قصة “شيخ العرب” أو أحمد أكوليز إلى لمسات إضافية لتكتمل معالم “الأسطورة” فيها، إذ إنها لم تكن قصة عادية لرجل قضى نحبه، بل كانت قصة رجل متمرد حمل السلاح ورفض وضعه إلى حين وفاته.. هي قصة يتداخل فيها الواقع والخيال، وتحركت دولة بكامل أجهزتها لتضع نلها نقطة النهاية بأي ثمن..
أحمد أكوليز المعروف بـ “شيخ العرب”، استطاع رفقة معاونيه أن يشغل الدولة لسنين، إذ كان بإمكانه أن يختفي عن الأنظار وقتما أراد وأن يظهر في المكان والزمن الذي أراد، رغم أن صوره كانت تملأ الشوارع، ورغم أن رصد المكافآت لتقديم معلومات عنه، حتى وصل الأمر بأجهزة الأمن أن عرضت صوره في قاعات السينما لحث الناس على تقديم معلومات عنه..
لم يكن “شيخ العرب” معروفا كثيرا خلال مرحلة الاستعمار، فهو لم يكن قائدا سياسيا ولا عسكريا، بل كان مقاوما بجيش التحرير، حمل السلاح في وجه الاحتلال، ونسّق بين المناضلين عبر المدن ونفّذ العمليات العسكرية، وعندما جاء الاستقلال كانا أكوليز ممن رفضوا وضع السلاح لاستكمال مسيرة التحرير..
كانت الأسباب التي دفعته إلى خيار التمرد كثيرة، فهو الذي قاوم أصبح يشاهد الخونة والعملاء وهم يتقلدون المناصب، بينما يتم اعتقال من حاربوا الاستعمار وتهميش أغلبهم، في حين استفاد من لم يستحقوا الامتيازات، لهذا كان يطرح سؤاله كما حكى المقربون منه “ألهذا حاربنا الاستعمار؟”، وكان هذا السؤال يطرح بحرقة من رجل تنكر له وطنه، فاختار أن يتمرد.
“شيخ العرب” لم يكن رجل سياسة أو مفاوضات ليحصن لنفسه مكاسب ما بعد الاستقلال، وهو أيضا لم يكن منتميا لحزب سياسي يوفر له الغطاء ويصنع منه رمزا، لكن علاقاته كانت متشعبة، واستطاع أن يحيط نفسه بهالة من الوقار والاحترام وسط من عرفوه عن قرب، بسبب شجاعته وإقدامه ورفضه الظلم، وكان ممن راكموا علاقات كبيرة مع التجار وغيرهم، مكنته من التخفي وإيجاد مصادر التمويل..
انمحت سيرة “شيخ العرب” من الروايات الرسمية، ولا يُعثر لها على أثر في كتب التاريخ، لكن القصة بقيت مخلدة في أرشيف مديريات الأمن، وفي حكايات البسطاء التي مجدته إلى درجة أن هناك من كان يرى فيه البطل الخارق والمخلص، وزاده البحث المضني الذي كانت تقوم به السلطات للقبض عليه هالة كذلك، فاستمرت قصته رغم الرغبة الرسمية في إطفائها..
على الأقدام من طاطا إلى الرباط
في سنة 1927 بدوار أكوليز بقبيلة إيسافن السوسية الواقعة بإقليم طاطا جنوب شرق المغرب، ولد أحمد (حماد) بن محمد بن إبراهيم بوشلاكن، المعروف أيضا باسم أحمد أكوليز، والذي اشتهر بلقب “شيخ العرب” أو “الحاج”.
تحكي الروايات، أنه سافر سيرا على الأقدام مسافة تزيد عن أربع مائة وتسعين كيلومترا، قاصدا مدينة الرباط ليساعد والده في محل التجارة، وهو لم يتجاوز سن الثانية عشر بعد. عمل احماد بعد ذلك في مدرسة كسوس طباخا ثم حارسا عاما في المرحلة الأولى من نشاطه النضالي الممتدة على مدى عقد من الزمن (بين سنتي 1944 و1954).
وبسبب نشاطه في صفوف المقاومة، ألقت عليه سلطات الاستعمار القبض في سنة 1951. وكانت العقوبة أن يعاود قطع المسافةنفسها التي قطعها منذ اثني عشر عاما سيرا على الأقدام، مقيد اليدين مكبل الرجلين، في رحلة العودة لمسقط الرأس بدوار أكوليز، ليكون عبرة لكل من اختار أن يقاوم الاستعمار..
سر لقب “شيخ العرب”
سيختار أحمد العودة من جديد إلى صفوف المقاومة المسلحة، ليعتقل مرة أخرى في صيف عام 1954، بتهمة حمل السلاح وتنظيم محاولات اغتيال. وحتى عندما تم تعيين أحمد رضى كديرة محاميا له رفض ذلك، ليتم إيداعه سجن القنيطرة المركزي. وفي فترة السجن هاته، سيكتسب أحمد أكوليز لقب شيخ العرب.
الذين عايشوه قالوا إن سبب اللقب كان أن أحمد رأى كيف تتعامل إدارة السجن بمحسوبية مع السجناء، إذ إن هناك من يتمتع بالامتيازات والأكل، فقرر الإضراب عن الطعام حتى يستفيد الجميع، وهنا برزت مكانته في أوساط السجناء كبطل، فقرروا إطلاق لقب “شيخ الإسلام” بسبب تدينه وورعه لكن رفض، فاستبدلوا اللقب بـ “شيخ العرب”.
الهروب من السجن..
بعد تصاعد عملية الكفاح واضطرار السلطات الاستعمارية إلى إيجاد صيغة للاستقلال، وبعد مفاوضات إكس ليبان وعودة الملك محمد الخامس من المنفى وبداية الاستقلال، استفاد السجناء المحظوظون من أبناء المدن من إطلاق السراح، بينما ظل “شيخ العرب” محبوسا مع آخرين، رغم أن الهدف الذي اعتقل من أجله قد تحقق، ومع توالي الأشهر نفذ صبره فنظم عملية هروب ناجحة من السجن في ماي 1956، لتنطلق قصته مع مغرب الاستقلال.
ورغم أن رواية البوليس تقول إن سبب تمرده كان لأنه لم ينل وظيفة رجل أمن ما بعد الاستقلال، إلا أن مصادر كثيرة من المقربين منه الذين تحدثوا بعد سنين من وفاته، قالوا إنه كان متذمرا رافضا لما آل إليه وضع البلاد بعد شبه – الاستقلال وخيانة الساسة وعلى رأسهم حزب الاستقلال الذي قبل بتنازلات خلال مفاوضات إيكس ليبان.
فقدان الأمل في “مغرب الاستقلال”
ومما زاده تمردا كذلك، هو رؤيته حزب الاستقلال وهو يتحالف مع المؤسسة الملكية من أجل نزع سلاح جيش التحرير، وإقبار المقاومة المسلحة التي رفضت وضع السلاح حتى استكمال مسيرة التحرير، إذ تورط الاستقلال في اغتيال كبار المقاومين، ومنهم عباس المسعدي وأحمد الطويل وغيرهما كثيرون. ويروي مومن الديوري في كتابه حقائق مغربية في شهادة مؤثرة عن صديقه شيخ العرب، أنه رآه يبكي مرة واحدة عندما شاهد علال الفاسي في استقبال بالقصر الملكي كان ينقله التلفزيون المغربي وهو يركع للملك الراحل الحسن الثاني ليقبل يده.
أمام إحساس الخيانة، وبداية انتشار الأفكار بأن المغرب لم يستقل بعد، وأنه “استقلال شكلي”، وبفعل تنصيب “الخونة” في المناصب ورؤيته الجيش الملكي يتكون على يد المستعمر، ويقضي على المقاومة، سيقرر “شيخ العرب” الانخراط في جيش التحرير الوطني بالجنوب في سنة 1957، بغية مواصلة الكفاح ضد الاستعمار واسترجاع الأقاليم الجنوبية. جاء بعدها ردع ما عرف بانتفاضة الريف (1958-1959) ليرسخ الاعتقاد عند شيخ العرب وغيره، بأن الاستقلال مجرد وهم، وأن المرحلة لا تختلف عن التي قبلها عندما كان الاستعمار حاكما.
سطوع نجم “شيخ العرب”
هنا سيسطع نجم شيخ العرب أكثر، إذ بدأ في تنفيذ العمليات ضد من اعتبرهم خونة، وظل يساند من يحسون بالظلم، وكان يقوم بمهام مكلف بها من طرف القيادة، وأخرى كان يجتهد فيها بنفسه دون علم القيادة التي لم تكن تجادله بحكم مكانته، فاستطاع أن ينسج بذلك حكايات تتناقلها الألسن عن مهارته في الهروب، وخداع رجال الشرطة والانتقام من أعدائه، لتزيد من قوة أسطورته.
كان “شيخ العرب” رجلا خارجا عن القانون في نظر السلطة، وكان بالمقابل بطلا شعبيا في أعين الشباب يتفاخرون بحكاياته التي كانت تصل سريعا. تفاقمت بسرعة سوابقه بتهم السرقة الموصوفة والإرهاب وغيرها، ليقوم في سنة 1959 باغتيال رجلين من جهاز الأمن، بعدما اشتكى له أهالي منطقة سوس من بطشهما وتعسفهما (وكان أحدهما قاتل علال بن عبد الله، الصباغ البسيط الذي حاول اغتيال ابن عرفة في 11 شتنبر 1953)، كما أصدر حكما بالإعدام في محكمة شعبية بحق ضابطين من جيش التحرير، اتهما بسلسلة من جرائم الاغتصاب في الجنوب. وهنا بدأت قطيعته مع جيش التحرير، بعد أن تزايدت انتقاداته اللاذعة لزعمائه. فأسس ما عرف بالجبهة المسلحة من أجل الجمهورية المغربية.
بناء على التهم السابقة، أصدرت محكمة تارودانت في حقه حكما غيابيا بالإعدام، ما اضطره إلى دخول حياة السرية ليعيش مراقبا ومبحوثا عنه من طرف المخابرات وفرق البوليس التي ضاعفت جهودها للقبض عليه، إلا أنه سيستمر في نشاطه رغم ذلك، وفي سنة 1962، سيجتمع شيخ العرب بالمهدي بنبركة في لقاء تاريخي نظمه صديقه مومن الديوري، بعد أن نجح في إقناعه بأن التحالف مع الزعيم اليساري، من شأنه أن يعرف بحركات الكفاح المسلح خارج الحدود المغربية، ويمنحها تأشيرة الاعتراف الدولي في إطار أنشطة مؤتمر القارات الثلاث.
وفي سنة 1963، سيتهم القصر الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وجيش التحرير في الجنوب، بمحاولة اغتيال الملك والتآمر على الحكم، فسجن الكثيرون ووزعت أحكام بالإعدام، وكان شيخ العرب ممن سيحكم عليهم غيابيا بالإعدام بمعية بنبركة في 14 مارس 1964.
سيلجأ شيخ العرب إلى الفرار إلى الجزائر بغية تلقي الدعم العسكري، لكن الرياح تأتي بما لا تشتهيه السفن، وتتغير معطيات السياسة المغربية الجزائرية بعد انتهاء حرب الرمال، بتوقيع السلام بين الحسن الثاني وابن بلة. وينزل الرئيس الجزائري عند رغبة رفاقه اليساريين من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذين سعوا جاهدين لإقناعه بأن يحتفظ بشيخ العرب بحجة أن عودته للمغرب ستشكل خطرا حقيقيا على حياة بعض أعضاء الحزب.
العودة من الجزائر والاغتيال..
في أبريل 1964، سيعود شيخ العرب إلى المغرب سرا عن طريق ولاية بني ادرار الحدودية، برفقة عمر ناصر الفرشي، ليشرع في تنظيم خلايا مسلحة من جديد، لكنه سيتعرض لوشاية من أحد المقربين منه، وتقول روايات بأن الواشي أخبر أعضاء الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذين قدموا معلومات إلى الأجهزة لبناء علاقات جيدة مع القصر، فيما تفيد معلومات أخرى أن الخائن كان مدسوسا من طرف الأمن بين صفوف رجاله، وهو من أوصل معلومات عن مكان تواجد أحمد أكوليز.
في 7 غشت 1964، سيطوق رجال الأمن البيت الذي كان يحتمي فيه شيخ العرب ورفاقَه، فيحدث تبادل لإطلاق النار بالأسلحة. يردى على إثره مبارك بوشوا قتيلا. يصاب إبراهيم مسليل الحلاوي بجروح بليغة. بينما اختار شيخ العرب الموت “بالرصاصة الأخيرة” التي لطالما حدث رفاقه عنها.
ورغم نجاح أوفقير في القضاء عليه، إلا أن حلمه بأن يطوف ربوع المملكة بمعية شيخ العرب في قفص حديدي تبدد، والتحقت الخلايا التي أقامها شيخ العرب بالتنظيم السري الموازي للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ومنهم من سينال نفس مصير الإعدام بعد ذلك.
عن
جريدة “أمَزان24”
-
المقاوم محمد بن حمو يشرح تفاصيل حل جيش التحرير ابراهيم و نشر في أزيلال أون لاين يوم 15 - 12 - 2009 المقاوم محمد بن حمو حكاية سلاح جمال...
-
شهداء....وشهيدات: الشهيد عباس المسعدي : زوجة عباس المساعدي تكشف "لغز" اغتيال قيادي جيش التحرير هسبريس من الرباط الأحد 29 ...
-
تفاصيل اغتيال المرحوم عبد العزيز بن ادريس مأساة تحناوت العلم نشر في العلم يوم 24 - 04 - 2009 في تاريخ رابع وعشرين أبريل 1959 توجه مفتش ...