السبت، 28 نوفمبر 2020

إعدام حكومة عبد الله إبراهيم اغتيال لمغرب الأمل والمستقبل

 إعدام حكومة عبد الله إبراهيم اغتيال لمغرب الأمل والمستقبل 


علاقة الزعيم الثوري "تشي غيفارا" بالمغرب لا تتجلى فقط في صور معلقة على جدران الأحزاب اليسارية وعلى أقمصة الرفاق، فأشهر ثوري في القرن العشرين سبق أن جمعة لقاء تاريخي بملهمة الأمير عبد الكريم الخطابي، بسفارة المغرب في القاهرة، كما قام بزيارة رسمية للمغرب في أواخر الخمسينيات بدعوة من عبد الله إبراهيم. أواخر سنة 1958 أرخت لانتصار الـ"الغيرييا"، الثورة الأمية الكوبية الشهيرة التي قادها الأرجنتيني "إرنيستو تسي غيفارا"، رفقة العسكري الكوبي "فيدل كاسترو". ولأن "غيفارا" ورفاقه ارتجوا من ثورتهم أن تكون أممية تشمل مختلف دول العالم ضد " الرجعية الإمبريالية"، فقد انطلق هذا الزعيم التاريخي، بعد نجاح الثورة مباشرة، في رحلات مكثفة إلى عدة دول رافضة لسطوة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها. رحلات "غيفارا" ستقوده إلى القاهرة في يناير 1959 حيث سيلتقي بعبد الكريم الخطابي، زعيم ثورة الريف، وعبد الله إبراهيم، وعبد الخالق الطريس، سفير المغرب بمصر.
خلال هذه الفترة، كان عبد الله إبراهيم يقود حكومة شكلت في 24 دجنبر 1958، وعرفت سيطرة الجناح اليساري المنشق عن حزب الاستقلال. هذا الأمر هيأ الحكومة للانفتاح على المعسكر الاشتراكي، وتعزيز دور المغرب ضمن دول العالم، سواء سياسيا أو اقتصاديا، مقابل قطعها مع "المحافظين والرجعيين الممثلين في الاستقلاليين والإداريين"، حسب تعبير محمد لومة في تصريحه لـ"أوال". في هذا السياق، جاءت زيارة "تشي غيفارا" للسفارة المغربية بالقاهرة في يناير 1959. "كان غيفارا قبل ذلك قد راقب بإعجاب كبير، من الطائرة التي أقلته من كوبا نحو القاهرة، منطقة الريف في شمال المغرب معتبرا إياها منطقة نموذجية لحرب "الغورا" (حرب العصابات)"، يورد محمد لومة في كتابه "سنوات الصمود وسط الإعصار "نقلا عن عبد الله إبراهيم. "غيفارا" نقل شهادته هذه مباشرة إلى عبد الكريم الخطابي خلال حفل عشاء أقيم بسفارة المغرب بالقاهرة، فبعد أن قدم عبد الله إبراهيم الخطابي إلى "غيفارا" جرى بين الطرفين حديث طويل دام عدة ساعات، "ذكر لي عبد الله إ"براهيم أن الرجلين كانا يسمعان لبعضهما بإنصات، ويتحدثان باللغة الإسبانية، وخلال النقاش عبر غيفارا عن إعجابه بالخطابي وبحرب الريف وتجربة الزعيم الريفي في حرب العصابات"، يقول لومة في حديثة لـ"أوال". "إننا نستطيع أن نسجل باعتزاز أن بلادنا كانت المسرح الأول لأول حرب عصابات في العالم (...) إن تشي غيفارا ابن روحي للمغرب، لأن بطولته من بطولة الخطابي"، يضيف لومة في شهادته. وانتهز عبد الله إبراهيم الفرصة، خلال هذا اللقاء، ليوجه الدعوة، رسيما هذه المرة، لـ"غيفارا" . وحل بالمغرب أواخر شهر غشت من سنة 1959.

زيارة "تشي غيفارا" الرسمية للمغرب كانت مثيرة للجدل، كما أشعلت نيران حرب متقدمة بين حكومة عبد الله إبراهيم والاستقلاليين، بزعامة علال الفاسي، ومولاي الحسن، ولي العهد انذاك. "بناء على دعوتي الرسمية ليغفارا بزيارة المغرب (...)، فوجئت في أحد الأيام بأحد نشاطء الحزب وهو يبلغني، وأنا في رئاسة الحكومة، بأن غيفارا موجود في أحد فنادق الرباط قرب محطة القطارات، تحت حراسة أمنية مشددة، بتعليمات من محمد الغزاوي، المدير العام للأمن الوطني، ولدى اتصالي بهذا الأخير مستفسرا عن أسباب هذا الاحتجاز، أجابني بأنه ينفذ بذلك تعليمات ولي العهد يتحدث عبد الله إبراهيم في مذكراته. "يبدو أن الكوبيين نزلوا فجأة بالمطار، وهو ما فاجأ الأمن، خصوصا أنهم كانوا يلبسون لباسا كاكي اللون"، يشير لومة لـ"أوال". فضلا عن الطابع المفاجئ للزيارة، كانت علاقة ولي العهد بعبد الله إبراهيم متوترة.

لم يكن الأمن والجيش تابعين للحكومة المستقلة، وهو ما يبرر التصرف الذي قام به مدير الأمن آنذاك، بإيعاز من الأمير مولاي الحسن. هذا الأمر أثار امتعاض عبد الله إبراهيم الذي خاطب مدير الأمن، محمد الغزاوي، قائلا، " قلت له بأن تصرفه لا يمكن قبوله، ذلك أن زيارة غيفارا للمغرب جاءت بدعوة رسمية مني، وبالتالي، فإن اعتقاله أو الترحيب به مسألة تتعلق برئيس الوزراء دون سواه". في هذه اللحظة سيدخل حزب الاستقلال على الخط، وفق ما ذكره محمد لومة، إذ نشرت جريدة "الأيام"، التابعة لحزب الاستقلال انذاك، وعبر مقالات افتتاحيات وقعها علال الفاسي نفسه، أنه "كان من الواجب على الرئيس، على الأقل، أن يذكر الوفود التي قام بدعوتها لزيارة المغرب، وأن يخبر بذلك جميع الدوائر المسؤولة". في هذه الأثناء كان "تشي غيفارا"، رفقة أعضاء الوفد الكوبي، يقيمون بفندق "باليما" وسط العاصمة الرباط. خصصت للوفد الكوبي إقامة خاصة بالفندق الشهير، تحت توصية واهتمام خاصين من الأمير مولاي عبد الله، قضى"إرنيستو تشي غيفارا"يومين داخل الفندق قبل أن يقدم عبد الله إبراهيم بنفسه لإخراجه من الفندق." لم أغادر الفندق حتى أنجزت التدابير الخاصة بالإفراج عن غيفارا ورفاقه الأربعة من كبار موظفي الدولة الكوبية الوليدة،وكانوا يبدون بقاماتهم الفارغة ولحاهم الكثة ولباسهم الكاكي الخالي من الرتب العسكرية...كانوا يبدون بأجسام قوية حديثة العهد بحرب العصابات"، يشير إبراهيم في مذكراته. خصصت للوفد الكوبي، كما يقول محمد لومة، سيارة الرئاسة التي قادتهم إلى فيلا بحي السوسي. وفي هذا الصدد يروي عبد الله إبراهيم، "حرصت على أن يوجهوا في موكب رسمي مخفوف بالدراجات النارية نحو إحدى الإقامات الرسمية للدولة في حي السوسي في الرباط".

بعد يوم راحة، استقبل الوفد الكوبي بغرض إجراء مباحثات رسمية. أول اجتماع انعقد يوم الاثنين 31 غشت 1959، في حدود الرابعة زوالا، بمقر كتابة الدولة في التجارة والصناعة الحديثة والملاحة التجارية. هذا الاجتماع، وفق ما أشارت إليها جريدة "التحرير" خلال متابعتها له، تميز بتقديم اقتراحات توقيع اتفاقيات بخصوص المبادلات التجارية بين المغرب وكوبا، من خلال مبادلة السكر الخام الكوبي، الذي يستهلكه المغاربة بكثرة، بالفوسفاط المغربي والأجهزة الصناعية المنتجة في المغرب. الاجتماعات استمرت حتى اليوم الموالي، في الفاتح من شتنبر، بين الوفد الكوبي الذي يتزعمه "غيفارا"، ورجال الدولة والاقتصاد المغاربة، بزعامة إدريس السلاوي، وزير الصناعة في حكومة عبد الله إبراهيم. اللقاء الرسمي الثاني عبد الله إبراهيم و"إرنيستو تشي غيفارا"، كان في البيضاء هذه المرة، داخل مكتب عبد الله إبراهيم المؤقت بمقر عمالة الدار البيضاء. جرى هذا اللقاء في سياق اخر اكتسى صبغة سياسية ، إذ اندرج في إطار استضافة المغرب لدورة مجلس جامعة الدول العربية. كانت لهذا اللقاء دلالته البالغة، والتي تتجلى في كون "غيفارا" عمل على توطيد علاقة ثورته ببلدان عدم الانحياز العربية، خاصة المغرب ومصر والجزائر. كما أن عبد الله إبراهيم ساهم في ربط جسور هذا التنسيق الأممي بين "غيفارا" والدول العربية، في انتظار ثورات مستقبلية أخرى بمجموع هذه الدول. رحلة زعيم الكوبي إلى المغرب تبدو شاقة لحدود الان. عبد الله إبراهيم استشعر أن زيارة ضيفه الخاص للمغرب كانت مضنية. لهذا السبب قام بترتيب زيارة إلى مراكش، قصد الاستجمام لمحو اثار الاحتجاز الموسف ، قمت بنقل الوفد على مدينة مراكش، حيث خيرتهم ما بين الإقامة بأحد الفنادق الكبرى، أو في أحد إقامات الدولية في حي المواسين الشعبي، فاختاروا الأخيرة يبقوا في مقربة من الشارع المراكشي"، يقول عبد الله إبراهيم في مذكراته التي كتبها محمد لومة. حضر حفل العشاء الذي أقيم بمراكش، على شرف الثوريين الكوبيين، رجال دولة وسياسة وعدة زوار. فرشت الزرابي واستقدم جوق موسيقى أندلسية لإطراب "غيفارا" الذي بدا سعيدا بهذا الاستقبال. دامت مدة مقام "غيفارا" وأعضاء الوفد الكوبي 18 يوما بالتحديد بمراكش، وبهذا الحي الشعبي الذي عج بالزوار خلال هذه الفترة.

إذا كان عبد الله إبراهيم، الذي سيكون من مؤسسي "الاتحاد الوطني للقوات الشعبية" سنة 1959، لم يلتقط إشارة " تشي غيفارا" بإيقاد جذوة ثورة جديدة تبدأ من الريف. فإن الزعيم السياسي ورفيقه في الحزب، المهدي بن بركة، كان قد قرأ أفكار الزعيم الكوبي وانخرط معه في نشر وتقوية جبهة الأممية الإشتراكية عبر العالم. ففي 23 نونبر 1963 صدر في حق الزعيم السياسي المغربي حكم بالإعدام بتهمة محاولة اغتال الملك الحسن الثاني، عقب هذا الحكم نفي بن بركة، وهو ما أتاح له فرصة ليصبح رسولا للثورة الإشتراكية، كما يلقبونه. رحلة بن بركة بدأت من الجزائر العاصمة، هناك التقى عدة شخصيات سياسية شهيرة، من بينها الزعيم الأمريكي "مالكوم إكس" وقائد الثورة التحررية الغينية "اميلكار كابرال"، غير ان اللقاء التاريخي هو الذي جمعه بالزعيم الكبير" إرنيستو تشي غيفارا". هذا اللقاء كان فاتحة انخراط بن بركة في مشروع الأممية الإشتراكية، إذ زار عدة عواصم لدول عالم ، بينها العاصمة الكوبية "هافانا"، كما حصل على دعم الثوار الكوبيين ومباركة اشتراكي العالم من أجل تنظيم مؤتمر "القارات الثلاث" الذي كان مزمعا عقده في يناير 1966 بالعاصمة "هافانا". بيد أن بن بركة سيختطف ويقتل في باريس في 29 أكتوبر 1965 في ظروف مازال الغموض يلف جانبا كبيرا منها وإن تم الكشف عن المتورطين الرئيسيين في العملية. سنتين بعدها، وفي شهر أكتوبر أيضا، سيرحل رفيقه "شتي غيفارا" بدوره عن هذا العالم، الثاني عثر على جثته، أما الأول فما زال مصير جثته مجهولا.

رشيد م.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق