“الطويل”..قصة “البوليسي” الذي أراد أن يحكم المغرب ..أسرار تكشف لاول مرة !
«لأنه تورط في عمليات اغتصاب لقاصرين ينحدرون من أسر عريقة، تقرر أن تتم تصفيته على طريقة الأفلام. البوليسي الطويل، من خلال هذا الملف، سيبدو أكثر من مقاوم قديم، بل سيبدو من خلال شهادات حصرية شخصا فوق القانون، ليكتب بيده قصة أكثر المسؤولين الأمنيين غرابة»
«لأنه تورط في عمليات اغتصاب لقاصرين ينحدرون من أسر عريقة، تقرر أن تتم تصفيته على طريقة الأفلام. البوليسي الطويل، من خلال هذا الملف، سيبدو أكثر من مقاوم قديم، بل سيبدو من خلال شهادات حصرية شخصا فوق القانون، ليكتب بيده قصة أكثر المسؤولين الأمنيين غرابة».
قبل الحاج ثابت الذي تفجرت قصته خلال التسعينات، كان هناك «كوميسير» آخر، تفوق قصته قصة ثابت جموحا وإثارة. اسمه أحمد الطويل، وبداياته كانت محط الكثير من التساؤلات. حاولنا في هذا الملف أن نثيرها، ووصلنا إلى أنه كان يشتغل في مجال قريب من مجال المقاومة، وسرعان ما نط إليها باحتراف ليصبح في فترة قصيرة واحدا من القليلين الذين سيطروا على الجماعات المسلحة بالمغرب. ووجد لنفسه بفضل هذا النفوذ، مكانا متقدما على رأس لائحة المرشحين بقوة للفوز بمنصب أمني بارز بالمغرب بعد الاستقلال.
أحمد الطويل أصبح برتبة «كوميسير»، يملك صلاحيات واسعة وفريقا من رجال الأمن ينتظرون إشارته لمباشرة العمليات التي كان معظمها خارج الاختصاص الأمني، ولا تمت للعمليات الأمنية بصلة.
أصبحت المجموعة متورطة، برئاسته، في عمليات اغتصاب جماعي، في مدن متفرقة وفي الدار البيضاء خصوصا، واستغلال سافر للنفوذ، ليتقرر أن يتم التخلص منه على طريقة أفلام السينما.
الطويل، من خلال هذا الملف سيبدو أكثر من رجل أمن، واستطعنا أن نعثر على بعض ممن عاصروه، ليحكوا لنا كيف كان الناس يرهبون جنابه، ويتحاشون المرور من الشارع الذي اعتاد المرور منه حتى لا تتقاطع أعينهم مع عينيه الغاضبتين، ويتحول من مجرد «كريسون» يساعد سائقي الشاحنات التي تتنقل بين الدار البيضاء والقاعدة العسكرية الأمريكية بالنواصر، إلى «كوميسير» أمني يقام له ويقعد.
أسرار تكشف لأول مرة عن شخصية «البوليسي»
لم يكن أحد من المحيطين به في «الكوميسارية» حيث كان يعمل، يدرك أن هذا الرجل كانت له طموحات توسعية كبيرة. كان معروفا بصلابته في التعامل مع المحيطين به، إلى درجة أن أحدهم تبول في سرواله عندما كان يتحدث إليه بلهجة آمرة في مهمة.
«الطويل» كانت له يد نفوذ طويلة، لكن بدايته كانت قصيرة قصر المدة التي قضاها في النعيم. منظره خلال نهاية الخمسينات، لا يدع مجالا للشك أنه من مواليد 1925 أو أقل بقليل. هذا ما قاله لـ«الأخبار» أحد الذين عرفوه من بعيد. يقول أيضا إن الطريق التي كان يمر منها أحمد الطويل كانت تفرغ بسرعة عجيبة من المارة.. لا أحد كان يود أن تلتقي عيناه بعيني الطويل..
البداية كانت في أواسط العشرينات. وقبل أن يصبح «كوميسير» شرطة، خلال سنة 1956، كان قد تدرج داخل صفوف المقاومة.
تهريب السلاح
الذين تحدثوا لنا عن أحمد الطويل، قالوا إن بداية التحاقه بالمقاومة، تمثلت في مدها بالسلاح، لكنهم وضعوا علامات استفهام كثيرة أمام المصدر الذي كان يحصل منه شاب بسيط على السلاح. كان أميا، لكنه من أوائل المغاربة الذين عملوا في قيادة الشاحنات بعد أن بدأ في المجال كمساعد للسائق.
حسب مصادر عليمة، فإن أحمد الطويل كان يعمل سائقا لشاحنة تنقل السلاح من القاعدة العسكرية الأمريكية بالنواصر إلى الدار البيضاء، وهناك كان يستغل الفرصة ليسرق بعضا منها ويبيعها بأثمنة تفضيلية لصالح خلايا المقاومة المسلحة بمدينة الدار البيضاء. وهنا بدأت علاقته بالمقاومة تحديدا. فالبعض قالوا في كتابات كثيرة إن أحمد الطويل سقط عليهم بمظلة من السماء، وتسلط عليهم عندما أصبح من أوائل الذين عملوا في الأمن المغربي بعد الاستقلال، وآخرون قالوا إن علاقته بالمقاومة بدأت عندما كان يمدهم بالسلاح بطريقة سرية، لكن لم يفتهم أن يلاحظوا أنه كان يقوم بهذا العمل مقابل المال، وليس دعما مجانيا للمقاومة.
المصادر نفسها أيضا تحدثت عن كون الطويل سرعان ما انضم إلى المقاومة بعد مشاكل في العمل الذي كان يزاوله أواسط الخمسينات، كسائق شاحنة لنقل المعدات، وأصبحت له امتيازات كثيرة في صفوف المقاومين، الذين كانوا يخصصون مصاريف كبيرة لدعم العمليات التي كان مخططا تنفيذها داخل الدار البيضاء على الخصوص.
طموح الطويل، كان أكبر من دخول المقاومة التي يقول هؤلاء إنه كان يبيعها السلاح ويطلب مقابلا ماديا لقاء ما كان يقدمه لها من خدمات. كان الطويل يريد أن يتربع على عرش جماعات مسلحة، في الوقت الذي كان فيه المغرب يستعد لطي صفحات المقاومة نهائيا وسحب السلاح منها ليصبح حكرا على الجيش والأمن. لكن الطويل رأى أن يلعب أدوارا كبيرة في جمع السلاح من بعض المقاومين الذين كان يعرفهم جيدا، وهكذا أصبح يلاحق الكثيرين الذين رفضوا في البداية الانصياع للأوامر وتسليم أسلحتهم، في الجبال والأماكن المهجورة التي شكلت أماكن للاختباء.
اسم الطويل، التقطه القائمون على أمر تشكيل النواة الأولى للإدارة العامة للأمن الوطني، وأصبح ضمن لائحة الذين أصبحوا رجال أمن بالمغرب سنة 1956. وفي هذا التاريخ.. وُلد أحمد الطويل مرة أخرى.
الحاج ثابت.. بصيغة الخمسينات
إذا كانت قصة الحاج ثابت قد تفجرت خلال سنوات التسعينات، لتعلن وجها من أوجه استغلال السلطة التي كانت مخولة لذلك «البوليسي». فإن أحمد الطويل قد سبقه بعقود طويلة إلى هذا الأمر.
فالتقارير السرية التي أعدتها المخابرات الفرنسية التي كانت مهتمة بالمغرب وتفاصيل الجهاز الأمني المغربي مباشرة بعد حصول المغرب على الاستقلال، تقول إن أحمد الطويل كان يقود مجموعة من العمليات الخارجة عن صلب العمل الأمني الذي يعمل داخله، وأصبح يستغل سلطته كـ«كوميسير» بالإدارة العامة للأمن الوطني، يربط علاقات مباشرة مع رؤسائه في الدار البيضاء وحتى في الرباط.
البداية كانت من خلال عمليات اختطاف في الشارع العام لأناس لا علاقة لهم بأي عملية أمنية، وابتزازهم مقابل المال. كان رجال فرقة أحمد الطويل يستغلون علاقتهم بالرجل، ويمتنعون عن أداء ثمن القهوة في المقاهي الشعبية التي اعتادوا الجلوس بها، بدعوى أنهم يعملون مع أحمد الطويل، كما أن بعضهم قام بعمليات اغتصاب وإكراه على ممارسة الجنس على فتيات، كانوا يعمدون إلى اصطيادهن من الشارع العام.
هذه المعطيات، تضمنتها تقارير سرية، كُشفت لاحقا، بعد أن كانت ممارسات أحمد الطويل ورجاله، تتم في الخفاء، ووصلت إلى مسامع الغزاوي، المدير العام للأمن الوطني في تلك الفترة، وقرر أن يكبح جماح أحمد الطويل.
لكن الأخير كان قد بلغ من القوة مبلغا كبيرا، ومن النفوذ ما أمكنه به السيطرة على المسؤولين الكبار، ليصبح ورجاله فوق القانون.
هل صفى أحمد الطويل معارضيه؟
سؤال أجاب عنه الكثيرون بالإيجاب، لكن التهمة تقتضي الكثير من التقصي. وحتى نكون أكثر دقة، فإن هؤلاء «الكثيرين» ليسوا إلا بعض الذين عاشوا في صفوف المقاومة بالدار البيضاء، وألفوا كتبا كثيرة تزخر بها المكتبة الوطنية. بين سيرهم الذاتية وقصص الكفاح المسلح، ذكروا اسم أحمد الطويل كواحد من الذين استهدفوا بعض عناصر المقاومة، ودخل معهم في سوء فهم كبير، انتهى بقتلهم.
لم تلفق التهمة بشكل مباشر لأحمد الطويل، لكن هؤلاء قالوا إنه كان المسؤول الأول عن فقدان رفاق لهم، لم يقبلوا أن يتعاملوا مع الطويل أثناء عملية تسليم السلاح.
هنا نورد قصة كان أحمد الطويل بطلا لها، وقد رواها بوشعيب الحياوي لـ«الأخبار» بكثير من الحماس، ليقربنا أكثر من الهالة التي كانت تحيط بـ«البوليسي» أحمد الطويل. يقول متحدثا عن تجربته الشخصية في عملية تسليم سلاح المقاومة، حيث يبرز بوضوح دور أحمد الطويل في الإشراف على جمع سلاح جماعات المقاومة المسلحة: «عندما سلمنا أسلحة «جيش الأطلس»، لم أسلم مسدسا شخصيا، وكنت أعزه كثيرا لأن جزءا منه كان مطليا بمادة «الكروم». وكنت أحمله معي دائما، وأنظفه بعناية، فرآه عندي أحدهم في الكاريان سنطرال، وكان حينها درب مولاي الشريف في طور البناء، فوشى بي..
بطبيعة الحال لم أكن أخرجه في الشارع ولم أهدد به أحدا، وإنما كان موضوعا في حزام سروالي، وأخفيه دائما في سترتي، ورآه أحدهم بالصدفة، فوشى بي إلى المقاطعة وكانت حينها جديدة قد أحدثت للتو، وعينوا على رأسها «خليفة» اسمه محمد العبدي.. هو الذي استدعاني عن طريق المقدم، ولم أعلم بموضوع الاستدعاء إلا وأنا في مكتبه. هناك، طوقني ثلاثة رجال، اثنان مغاربة والآخر فرنسي، وجردوني من المسدس وأخذوني إلى «الكوميسارية» التي لم تكن تبعد إلا بأمتار قليلة عن المقاطعة. وبدؤوا يحققون معي ليعرفوا إن كنت أتوفر على كمية من السلاح لم نسلمها مع أسلحة «جيش الأطلس». أرادوا معرفة السبب وراء عدم تسليم المسدس مع الأسلحة الأخرى، وشرحت لهم أنني أحتفظ به للذكرى ولا أستعمله بأي شكل من الأشكال. أرادوا تعذيبي حتى أبوح لهم بالأسلحة «الأخرى» التي يظنون أنني أخفيها، وفي تلك اللحظة دخل «كوميسير» فرنسي، وتدخل ليمنعهم من تعذيبي، وأمرهم أن يقدموني إلى النيابة العامة، صادروا المسدس، وقدموني إلى الجنايات في الغد. عرضوني على الوكيل ولم يتأخر في الأمر باعتقالي، وأخذت بعد ذلك إلى سجن «الغبيلة»، السجن المدني بدرب السلطان. كان مدير السجن هو إبراهيم النعنعي، رحمه الله، وكان يعلم أنني في صفوف المقاومة ويعرف أيضا عددا كبيرا من الإخوان، وكان طيبا. جاء عنده أحمد الطويل وطلب منه أن يسلمني إليه فاعترض، سي النعنعي، وقال له إن السجن ليس مثل «الكوميسارية»، وطرده، ثم أمر الحراس أن ينقلوني إلى زنزانة أخرى ويضاعفوا الحراسة عليّ. في الغد علم أصدقائي خارج السجن بما كان ينوي أحمد الطويل القيام به، وتوجهوا إلى الرباط في 8 سيارات وطلبوا مقابلة الملك محمد الخامس وشرحوا له قصتي وكيف اعتقلت، فاتصل الملك الراحل فورا بوزير العدل وأمره أن يتصل بإدارة السجن لإطلاق سراحي».
هذه قصة واحد من قدماء خلية للمقاومة المسلحة بالدار البيضاء مع أحمد الطويل، ولعلها تكون واحدة من العمليات التي برز فيها اسم أحمد الطويل لدى الدوائر العليا بالبلاد، وتجتمع تقارير أخرى لتقول إن أحمد الطويل كان فوق القانون، وتبادر الإدارة العامة للأمن الوطني إلى تدبر طريقة، تكلف أصدقاء الطويل نفسه بتنفيذها لإبعاده عن الأمن والسلطة إلى الأبد.
البوليسي المرعب..!
«أهم فترة في حياة الطويل القصيرة، هي عندما أصبح رجل أمن. لكنه لم يكن رجل أمن عادي أبدا، بل كان لديه تعطش كبير للسلطة». بهذه العبارة يصفه لنا واحد من قيدومي المقاومة، يقول إنه كان يسكن في الشارع المقابل للمكان الذي يقيم فيه أحمد الطويل. كان الجميع يعرفون أنه يعمل في البوليس، لأنه كان يأتي إلى بيته في المساء يحمل معه سلاحه الوظيفي على ظهره. هذه المعلومة لم يكذبها أحد من الذين عرفوا أحمد الطويل ذات يوم. فقد كان يضع رشاشه وراء ظهره بشكل يبدو معه للعيان، ولم يكلف نفسه عناء إخفاء سلاحه، أو وضعه في مكان آمن على الأقل شأن بقية رجال الأمن.
كان أحمد الطويل يحب الاستعراض، وقوته كانت تكمن في هذا الاستعراض. فالحي الذي كان يقطن به في الدار البيضاء، كان محط احترام كبير من أكثر المسؤولين أهمية إلى أقلهم رتبة، ولم يكن أحد يقدر على الاقتراب من منطقة نفوذ البوليسي الأكثر إثارة للجدل.
في درب البلدية، حيث كان مقر اشتغاله إلى جانب عشرات رجال البوليس، كان أحمد الطويل يترأس مجموعة من الأمنيين ليقوموا بعمليات تمشيط في مختلف أحياء الدار البيضاء.
رحلة البحث عن «مثالب» هذا الرجل متعبة، لكنها كانت على الأقل تستحق، عندما تكتشف أن هناك من يحمل للرجل الكثير من الذكريات «الحديدية».
أحد الذين تحدثنا إليهم في الموضوع، واسمه مولاي علي، يقول إن أصدقاءه كانوا يلقبونه بـ«شطيبة». قال إنه يتذكر جيدا كيف أن أحمد الطويل كان ينزل من السيارة كل صباح ليدخل مقر المقاطعة الأمنية السابعة، في درب البلدية. بعد كل تلك السنوات التي تعدت نصف قرن، يقول هذا الرجل إنه لا يزال يتذكر «الرعدة» التي كانت تسري في أجساد المارة والواقفين قرب المكان الذي تتوقف فيه سيارة أحمد الطويل كل صباح. لم يكن يقودها بنفسه، وإنما يتكلف أحد الأمنيين الذين يعملون في فريقه، بعملية القيادة، في ما يتكلف الآخرون بخدمته، رغم أن بعضهم لم يكونوا أقل رتبة منه. إذ أنهم كانوا جميعا متقاربين في الرتب الأمنية، والاختلاف الوحيد بينهم وبين أحمد الطويل، هو أن الأخير كان رئيس مجموعة، وهو ما خول له مزيدا من الصلاحيات، كأن يتحكم في بعض رجال الأمن، ويتخذ منهم سائقا له ومشرفين على خدمته.
بالعودة إلى كلام الرجل: «أتذكر مرة ذات صباح صيفي، كيف توقفت السيارة التي كانت تقل أحمد الطويل. كان يجلس وحيدا في الخلف، متأبطا سلاحه الذي كان يبدو من زجاج النافذة في المكان الموالي لجلوسه. كنت أنا جالسا أقرأ الجريدة قرب المحل الذي داومت على الجلوس فيه لأكثر من ثلاثين سنة، امتدت إلى ما بعد رحيل الطويل نهائيا عن الحياة وعن جهاز الأمن.
المهم، توقفت السيارة مصدرة أزيزا مزعجا، ونزل سائقها مسرعا وفتح الباب لأحمد الطويل، وسرعان ما توقفت قربه سيارة أخرى توقفت بالطريقة نفسها لينزل منها رجال أمن آخرون. تجمهروا كلهم حول الطويل منتظرين تعليماته. يومها، وكنت شابا في الثلاثين، لمحت طفلا صغيرا يقترب بحذر من التجمع الأمني الذي يرأسه الطويل، وما إن لاحظ أحد الأمنيين هذا الأمر، وكان يرتدي قميصا أبيض، وكانت بشرته سمراء، وصلعته تلمع تحت شمس الصيف الحارقة. كانت يداه ضخمتين بشكل مرعب.. صوبهما في اتجاه الطفل المسكين، وهوى بإحداهما على خد الطفل ليسقط مغشيا عليه، وينهال عليه آخران بالركل، ليأمره ثالثهم بالابتعاد فورا عن المكان.
لم يحرك أحمد الطويل ساكنا، واسترسل في حديثه إلى الأمنيين الذين كانوا يرافقونه، دون أن تفارقه نظرة غاضبة أثناء الحديث إليهم.
كانت العادة أن يبتعد المارة عن طريق أحمد الطويل، وليس أن يقتربوا منه، لأن الذين يقتربون منه، تكون نهايتهم غير سارة أبدا.
في ذلك اليوم، لم يدخل أحمد الطويل إلى «الكوميسارية» كما كانت عادته. ذلك الصباح كان استثنائيا، حيث عاد إلى السيارة وأمر مرافقيه باللحاق به، وتحركت السيارتان. بعد ساعة فقط، عادت السيارتان بالطريقة ذاتها، ودخل أحمد الطويل مسرعا إلى «الكوميسارية»، بالطريقة نفسها التي اعتاد من خلالها أن يظهر قوته وسطوته للجميع.. أن يبدو رشاشه بارزا للعيان. ثم لحق به شخصان آخران، لكن السيارة انعطفت إلى البوابة الخلفية، وفي ما بعد سمعت أنها كانت تحمل بعض الرجال الذين تم اختطافهم على يد الطويل».
شهادة هذا الرجل الذي يقول إنه كان محظوظا لأنه يعمل داخل «حانوت» لا يبعد إلا أمتارا قليلة عن مقر المقاطعة الأمنية، وظل شاهدا على يوميات ساخنة من أيام أحمد الطويل.
القطرة التي أفاضت الكأس
في مجتمعات الرباط الميسورة بحي السويسي، راج خلال الخمسينات أن هناك رجل أمن يعلو فوق القانون، ولا يستطيع أحد الوقوف في طريقه. لم يكن الرباطيون يعلمون أن «البوليسي» أحمد الطويل، الذي يعمل بالدار البيضاء، يستطيع أن يركب سيارته ويأتي إلى أي مكان في المغرب ليباشر عمليات اختطاف باسم العمل الأمني، في واضحة النهار، ودون أن يوقفه أحد.
لم يكن في الأمر أي مبالغة، إذ أن أحمد الطويل، كان يتجه إلى العاصمة الرباط ومراكش ومدن أخرى كفاس ومكناس، ويبحث عن أشهر محلات اللهو، ويختار ضحاياه، وليجبرهم رجال الطويل على الامتثال مقابل الإبقاء على حياتهم.
من هؤلاء الضحايا، كانت هناك نساء متزوجات وفتيات قاصرات، تعرضن لاختطاف في الشارع العام، وتم اقتيادهن إلى أماكن سرية ليتم الاعتداء عليهن جنسيا.
لكن النقطة التي أفاضت الكأس، كانت عندما تعرضت بعض الفتيات الفاسيات للسيناريو ذاته على يد أحمد الطويل، واشتكى أولياء أمورهن هذا الأمر لبعض المقربين من الدوائر العليا، ليدور حديث خافت في الكواليس، وتصل أخبار ممارسات أحمد الطويل إلى قمة الإدارة العامة للأمن الوطني، ويتقرر إيقافه نهائيا عن العمل، بعد أن راجت أخبار مسؤوليته عن عمليات اغتصاب تعرض لها أطفال أسر فاسية معروفة.
المشكل اتخذ منحى خطيرا عندما قررت تلك الأسر أن تضع حدا لحياة أحمد الطويل، لأنها كانت تخشى الفضيحة بالمثول أمام القضاء.
لم يكن أحد يريد أن يطفو اسم أسرته على سطح تلك الأحداث، وهكذا تقرر أن يتم إبعاد أحمد الطويل عن طريق المقربين منه، لأنه أصبح يشكل خطرا على حياة بعض الأسر.
قصة الضابط الذي تبول في سرواله أمام «الطويل»
الرجل نفسه الذي روى لنا القصة التي يقول إنه كان شاهدا عليها من خلف المنضدة داخل متجره، يحكي لنا قصة أخرى أكثر إثارة. يقول: «كان أحمد الطويل يتحدث من زجاج السيارة التي تقله في المساء من العمل، مخاطبا بعض الأمنيين الذين كانوا يتحركون بإمرته. لم يكن يعلم أنهم يعملون في فريق أمني، لأن هذه الأمور لا يمكن أن تحضر في دماغ رجل بسيط لا يعلم من أمر التركيبة الأمنية شيئا يذكر.
واحد من هؤلاء الأمنيين الذين كانوا يعملون في المقاطعة السابعة، صاح فيه أحمد الطويل، وناداه بـ«الحمار» ووصل صياحه إلى الجانب الآخر من الشارع. لكن رجل الأمن لم يتحرك من مكانه، وبقي يستمع إلى الطويل الذي كان يخاطبه من نافذة السيارة، قبل أن يهوي بيده على قميص رجل الأمن الذي كان في وضعية انحناء لتلقي الأوامر من أحمد الطويل. في اللحظة التي هوى فيها الطويل على قميص الواقف أمامه ليجره إليه ويوبخه، كان الأخير قد فقد سيطرته على نفسه، ليتبول في سرواله، ويأمره الطويل بالانصراف».
أحمد الطويل ومقتل ثريا الشاوي
عندما قال أحمد البخاري، الضابط السري، على صفحات جريدة «الأخبار» إن أحمد الطويل هو المسؤول عن مقتل الشابة المغربية، ثريا الشاوي، تساءل الكثيرون عن مسار هذا الرجل الذي كان برتبة «كوميسير» أواسط الخمسينات، وكيف استطاع أن يتسبب في مقتلها، بعد أن أصبحت هذه الشابة أيقونة مغرب الخمسينات.
تنحدر من أسرة عريقة وميسورة، وسطع نجمها عندما أصبحت أول سيدة عربية تقود طائرة في الجو. وهكذا كثر معجبوها، وأصبح اسمها أكثر الأسماء شهرة لدى الشبان المغاربة. حتى المغربيات كن ينظرن إليها بعين الإعجاب لأنها قطعت مع الصورة النمطية عن المرأة المغربية، واستطاعت أن تنجح في تعلم الطيران، وتحلق في الأجواء، لتسبق الرجال إلى خوض غمار تجربة قيادة الطائرات.
أحمد الطويل، قبل أن يصبح ذلك «البوليسي» الشهير، كان وقتها وراء عمليات مضايقة تعرضت لها ثريا الشاوي، ونسبها الناس ذلك الوقت إلى «مجهولين»، عندما كانت ثريا تتعرض لمضايقات على يد رجال الأمن الفرنسيين قبل الاستقلال.
لكن ما غاب وقتها عن العارفين، وتمت حياكته في الكواليس، هو أن أحمد الطويل قرر الانتقام منها عندما رفضت عرض الزواج منه، وبات من المستحيل عليه أن يلاحقها لأنها أصبحت محاطة بهالة من الشهرة، وهكذا تم تدبر أمر قتلها، في أول مارس سنة 1956.
هكذا اغتيل «البوليسي» على يد أصدقائه
كان لا بد إذن أن يزول أحمد الطويل عن الوجود. فالأسر الفاسية النافذة التي تعرض أبناؤها للاغتصاب تلقت وعودا مطمئنة إلى أن الطويل سيلقى جزاءه، بعيدا عن فضائح المحاكم.
أوكل أمر الطويل إلى أقرب الناس إليه. وهكذا تقرر أن يتكلف أصدقاؤه، الذين يعملون تحت إمرته في الفريق، بأمر تصفيته جسديا.
يومها كان أحمد الطويل، في طريقه إلى لقاء متفق عليه سلفا، واختار أصدقاؤه أن تكون طريق اللقاء هي آخر ما يراه رئيسهم أحمد الطويل في حياته. فالأوامر التي تلقوها من الإدارة العامة للأمن الوطني كانت واضحة.. لا يمكن أن يستمر وجود أحمد الطويل يوما إضافيا.
الطويل جالس كعادته في المقعد، بينما يتكلف أحد الأمنيين الذين يرافقونه بعملية القيادة. توقفت السيارة عند إشارة ضوئية.. ولنترك رواية البخاري لتصف المشهد: «قدم من مقر المقاطعة الأمنية السابعة، وانعطف في اتجاه كراج علال، ثم اتخذ طريق شارع المقاومة، عندما وصل إلى ملتقى شارع الحسن الثاني وشارع عبد المومن، كان يريد الانعطاف يسارا كي يتجه إلى درب غلف، وكان لديه موعد مع بنحمو الفاخري. عندما وصل إلى ذلك المدار، كانت خلفه سيارة يركب فيها بوليسي اسمه، الدكالي «لاميطراييت»، وكان هذا لقبه. وفي الشارع المقابل، كانت سيارتان أخريان تقفان قرب محطة للتزود بالوقود (تلك المنطقة الآن أصبحت مقرا للبنك الشعبي)، وهكذا أصبحت سيارته محاطة.. بسيارة من الخلف، وسيارتين من الأمام. وأشير هنا إلى أن أحمد الطويل لم يكن يقود سيارته، وإنما كان سائقه هو واحد من معاونيه في المجموعة التي يشرف عليها، وكان متفقا مع الآخرين على تصفية رئيس مجموعتهم (أحمد الطويل).
كان الاتفاق، أن يعطي سائق سيارة أحمد الطويل، إشارة ضوئية لأصدقائه الواقفين أمام محطة البنزين لإعلان بدء عملية اغتيال «البوليسي» أحمد الطويل. عندما أصبحت الإشارة الضوئية باللون الأخضر، تحركت السيارة وأعطى السائق الإشارة، ثم انعطف يسارا، فإذا بالسيارتين تحاصرانه من الأمام، بينما السيارة التي تتبعه من الخلف، تحولت إلى حائط صد يحاصر السيارة من الوراء. وفي غمرة الصدمة التي أصيب بها أحمد الطويل، انهالت عليه الرشاشات، وكان عدد الذين يطلقون النار 4 أفراد من البوليس السياسي، ولم يتوقفوا عن إطلاق النار إلا عندما تأكدوا أنه قد مات.
في شارع الحسن الثاني، رأى الجالسون على رصيف مقهى يوجد في زاوية الشارع، ذلك المشهد الذي كان شبيها بالأفلام البوليسية».
هذه الرواية أكدها لـ«الأخبار» شاهد عيان، هو ابن أحد قدماء الأطر الذين ساهموا في إرساء دعائم وزارة التربية الوطنية. يقول إنه كان يومها شابا يافعا، عندما كانت تصطحبه والدته وخاله، إلى الدار البيضاء، حيث كانوا جالسين في المقهى الذي شهد على الواقعة. يقول إن حداثة سنه لم تكن لتمنعه من تذكر تلك اللحظات بوضوح ما زال يمثل أمام عينيه إلى اليوم. ففي اللحظة التي كان فيها المارة يقطعون الشارع بشكل عادي، فر الجميع هاربين في الاتجاهات المعاكسة، ومنهم من لجأ إلى المقهى عينه، عندما سمع صوت الرصاص، مستهدفا سيارة بداخلها ركاب.
عندما انتهى حاملو السلاح من عملية إفراغ الرصاص بغزارة على الجالسين داخل السيارة، لاذوا جميعا بالفرار على مرأى ومسمع من الجميع.
وهكذا مات أحمد الطويل على طريقة العصابات الأمريكية، تاركا علامات استفهام كثيرة، حول ما يمكن أن نسميه بـ«صناعة» المسؤولين الذين اعتادوا أن يجدوا لهم مكانا فوق القانون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق