الثلاثاء، 24 نوفمبر 2020

القصة الكاملة لدار بريشة بتطوان

 بقلم:أكرم فاضل.


منذ بُعيد الاستقلال،وبالتحديد في أواخر الخمسينات وبداية الستينات،شهد المغرب الكثير من الانتهاكات في معتقلات سرية كانت مقابر،أودت بحياة مغاربة أبرياء لم يقترفوا من ذنوب سوى مطالبتهم بالحرية،وبحياة أسمى تحسسهم بأن بلدهم يعيش إستقلالا فعليا يقودهم نحو مستقبل  يعيش فيه الجميع بعدل وحق ومساواة.

دار جنان بريشة بتطوان كان من بين هذه المعتقلات،وهو أول معتقل في مغرب ما بعد الاستقلال.تعود ملكيته إلى عائلة بريشة،ويتموقع في حي المحنش الثاني بجانب المعمل القديم للسكر وخلف دار الشاطبي للتعليم الأصيل.

في العام 2013 تداولت منابر صحفية وطنية خبر تحويله إلى متحف،إسوة بجميع المعتقلات السرية القديمة في المغرب،وهي الدعوة التي ركز عليها المجلس الوطني لحقوق الإنسان تحت رئاسة إدريس اليزمي،لكن ما زال هذا لم  يتحق إلى يوم الله هذا،كما لم تظهر الكثير من خبايا هذه المعتقلات بالمغرب،ولم تحدد الأسماء الكاملة للمعتقلين وأماكن دفنهم والمدن التي ينحدر منها كل واحد منهم.وفي هذه المقالة نورد الكثير من التفاصيل الخاصة بهذه الدار (دار بريشة) بحسب وثائق الهيئة الوطنية للإنصاف والمصالحة وعدد من الوثائق والشهادات الأخرى التي تطرقت إلى الموضوع.

ورد في الفصل الرابع وبالتحديد في الفقرة الأولى  التي تحمل عنوان(اختفاء ووفاة أشخاص خلال السنوات الأولى للإستقلال) من الكتاب الثاني الذي أصدرته هيئة الإنصاف والمصالحة (نتائج وخلاصات التحريات حول مجهولي المصير والحالات الخاصة)،أن الدار (بريشة) كانت مقرا لسوء المعاملة والتعذيب والتصفية،ويفيد كتاب الهيئة أيضا،في معلومات تم الحصول عليها من أشخاص سبق وأن تم احتجازهم في الدار،وهم (أحمد بن ضريفة و عبد الكريم غجو وعبد السلام العمري )بأن المحتجزون كانوا يعملون في أسلاك التعليم والفكر والكتابة والسياسة والثقافة والدين،زيادة على مقاومين وأعضاء من جيش التحرير وعناصر من الحزب الشيوعي المغربي ومنظمة الهلال الأسود ومواطنون لم يكونوا يشكلون أي انتماء سياسي ثابت.

وفيما كان معظم المحتجزين في الدار من المحكوم عليهم بالإعدام وأحكام متفاوتة أخرى إبان الاستعمار بسبب نضالاتهم من أجل الاستقلال،كان جزاءهم بعيد الاستقلال التعذيب والتصفية،وبحسب نفس الهيئة (الانصاف والمصالحة)،فإن معظم المعتقلين ظل مصيرهم مجهولا فيما لم يتم تحديد أماكن دفنهم ولا تأكيد ما إذا كان دفنهم كان بذات الدار (بريشة)أم في مكان آخر كان يستعمل لنفس الغرض وهو ما يعرف بدار الريسوني.

يقول أحد هؤلاء المعتقلين السابقين (أحمد بنضيفة) في شهادة مؤثرة عرضت خلال ندوة حول المعتقل السري دار بريشة (نظمتها اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان):"قضيت 53 يوما في المعتقل،لم أكن معاديا للنظام  ولم تكن لي ارتباطات برجال الحركة الوطنية،ولم أكن أتاجر في السلاح، جرمي الوحيد أن قريبي كان ضمن لائحة المطلوبين لفائدة الحزب الحاكم (الإستقلال)...عثروا على اسمي في ورقة كانت مخبئة في جيب قريبي، اعتقدوا أنني ضمن الخلايا السرية التي تكيد للحزب الحاكم...اتصلوا بي وقالوا لي نحن من طرف قريبك".

يضيف بنضيفة في شهادته التي تطرقت إليها عدد من الجرائد الوطنية:"سألوني للتأكد من إسمي ثم اقتادوني دون أن أسألهم عن الوجهة،وبعد مسافة سير طويلة،وجدت نفسي داخل جنان بريشة، أخرجوني من السيارة ورموني في مدخل المعتقل، وانهالوا علي بالضرب،لم أفهم شيئا ولم يكن حتى يسمح لي بالسؤال".

الشهادة الثانية في نفس الندوة التي بُثت أطوار منها في شرائط صُورت في دار جنان بريشة قبيل عقد الندوة،للمعتقل عبد الكريم غجو الذي كان كلما زاد توغلا في غرف الدار إلا وبكى أكثر مما تحدث.يقول في شهادته:"منذ اللحظات الأولى التي جيء بي فيها إلى المعتقل وأنا أعذب،كان الجلادون يذوقونني سوء العذاب وأنا في السلم، عندما أكون صاعدا أو نازلا".

لم يكمل الرجل شهادته لأن عمره لم يسمح له بذلك زيادة على بكاءه الطويل كلما تذكر تفصيلا من التفاصيل المؤلمة.

الشاهدة الثالثة كانت لعبد السلام العمري،وهو من أوائل المعتقلين الذين زج بهم في دار بريشة،يقول في شهادته:"كنت إلى جانب رفيقي أشتري سمكا في منطقة حجر النحل،ثم باغتني أربعة أشخاص أجسادهم شديدة قوية وهئتهم فارعة،كانوا يحملون مسدسات في أيديهم...تقدم مني أحد المخطفين وطلب مني أن أرافقه وزملائه،وقبل أن أسأله عن الوجهة وجدت نفسي أتلقى لكمات قوية وأقتاد بالقوة إلى السيارة"

يضيف المعتقل على أسماع الحاضرين قائلا:"استغرقت المسافة إلى دار بريشة أزيد من خمس ساعات،اتهموني بالمتاجرة في السلاح بينما لم يسبق لي وأن حملت مسدسا في يدي...جيء بي إلى مكان يدعى الكورنة، علقوني عاريا وتم جلدي بحبال غليظة وصب الملح فوق جلدي...كان المكان عبارة عن كراج، فيه عدد من البراميل، كانت مملوءة بالماء والبول والغائط،عندما ينتهون من الجلد كانت الحصة الثانية هي غطس الرأس في هذه البراميل القذرة".

يزيد قائلا:"كنت مسجونا في غرفة بالطابق الثاني بدار بريشة،مساحة الغرفة لم تكن تتجاوز مترا ونصف المتر،كنا سبعة أفراد...بعدها جاء الخاطفون بثلاثة أشخاص من جيش التحرير لا يتحدثون إلا بالأمازيغية ورابع إسمه البقالي،ثم قاموا بإعدامهم في عرصة المعتقل ودفنوهم تحت شجر الكرموص، وهم ما يزالون لحد الآن هناك".

وهناك شهادة أخرى لزوجة أشهر المعتقلين في جنان بريشة وهو عبد السلام الطود تؤكد فيها لهيئة الانصاف والمصالحة أن زوجها أدخل وعذب في المعتقل.وبحسب كتاب (دار بريشة، أو قصة مختطف ل: المومني التجكاني المهدي،فإن زميل الطود المدعو إبراهيم الوزاني، المعتقل الشهير أيضا في جنان بريشة،تم اقتياده من مقهى كونتيننتال بشارع محمد الخامس بتطوان رفقة الطود وأحمد أشطون وقتلوا في جنان بريشة مع 47 معتقلا آخر باستثناء عبد السلام الطود الذي تم اقتياده وقتله في غفساي بمدينة تاونات.

لا يمكن بأي حال من الأحوال استصقاء العدد الحقيقي للنزلاء الذي زُج بهم في دار بريشة،غير أن إدريس كويس المرون أحد الناجين من جحيم دار بريشة حددهم في 47 معتقلا وهو نفس العدد الذي قال عنهم المومني بأنهم قتلوا في المعتقل،بينما حددهممحمد عبد الكريم الخطابي في رسالة بعث بها منالقاهرة في 27 يوليوز 1960 إلى الأمين العام لحزب الشورى والاستقلال محمد حسن الوزاني في 120 معتقلا،كما تشير نفس الرسالة إلى ممارسات مفصلة لتعذيب واغتصاب وقتل استهدفت فتيات،وأيضا يحدد فيها محمد عبد الكريم عدد من المعتقلات في ذلك الوقت بمدينة تطوان،منها جنان الريسوني،ودار الخمال،ودار بشارع محمد الخامس كانت تواجه مقهى كونتيننتال، ونقطة البوليس "بنيابة الأمور الوطنية" سابقا،وقسم المجرمين،ودار بسفح جبل "غرغيز"،وكهف بالرينكون (المضيق)،وعزبة في بنقريش...والقائمة طويلة تصل إلى مائة معتقل في جميع ربوع المغرب.

إن الأحداث التي وقعت بالتفصيل في دار بريشة لا يمكن بأي حال من الأحوال التعرف عليها بالتدقيق والتفصيل وما هو خاف يفوق كل التصور،لذلك فالعنوان الحقيقي لهذه المقالة هو "القصة غير الكاملة لجنان دار بريشة"،والعنوان الذي وضعته أعلى النص لا يوحي إلى أن القصة هنا بكل تفاصيلها وإنما بأنها جزء صغير يعرف بالنزر القليل للمعاناة والآلام التي قاسها الأجداد،والمراد دائما هو التعريف بقضايانا وتاريخنا الذي أصبح مهددا بالاندثار بسابق ترصد وإصرار.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق