الثلاثاء، 23 فبراير 2021

صديقنا الملك

 صديقنا الملك (بالفرنسيةNotre ami le roi)‏ هو كتابٌ من تأليف جيل بيرو عام 1990 ويحكي فيهِ عددًا من المواضيع حولَ ملك المغرب الراحِل الحسن الثاني. كان هدفُ بيرو المُعلن من هذا الكتاب هو إظهار أن الواجهة الديمقراطية الحديثة للمغرب تُخفي ورائها «ديكتاتورية وحشية».

تسبّب كتاب صديقنا الملك في فضيحة في فرنسا حيثُ طالب الملك الحسن الثاني عند صدوره بحظره ومنع نشره أو بيعه وقد استجابت الحكومة الفرنسية نوعًا ما لهذا الطلب لكنّها لم تفلح في منعِ انتشارهِ كليّةً.

المُلاحظ في الكِتاب هو تعمّد بيرو استعمالَ مصادر قليلة كما لم يُضمّن الكثير من المراجع مُعتمدًا كبذيلٍ عن ذلك بخبرته ومهاراته التحليلية وبالبحثِ المُعمّق الذي أجراهُ حول طبيعة العلاقات المغربية الفرنسية

المحتوى

يتمحورُ الكتاب حولَ تمثيل نظام السلطة في المغرب كما يتطرّق لقضيّة القمع السياسي والصراعات حولَ السلطة داخل النخبة الحاكِمة أو الطامحة للحُكم.

الخطوط العريضة للتاريخ المغربي

يبدأُ بيرو بمخططٍ للتاريخ المغربي يستعرض فيهِ فترة الاستعمار وتاريخه ومن ثمّ النضال من أجلِ التحرير كما يصفُ خلفية الصراع حولَ الصحراء الغربية وقوة البنوك والشركات الفرنسية في المغرب فضلًا عن حديثهِ حولّ قوّة المعارضة والانتفاضات المدنيّة التي حصلت في تلكَ الفترة، كما يتطرّق لتصريح الحسن الثاني في عام 1990 لوفدٍ من منظمة العفو الدولية والذي يقولُ فيهِ بصريح العبارة: «لكلّ رئيس دولة حدائقه السرية.»

السجناء السياسيين

يُحقّق بيرو في مصير السجناء السياسيين في المغرب وما حلّ بهم ويُركّز بالخصوص على:

  • عائلة أوفقير: حسبَ ما ورد في الكِتاب فإنّ الحسن الثاني قد تعمّد سجن عائلة أوفقير لمدة 18 عامًا فقط بسبب علاقتها بالجنرال محمد أوفقير الذي كانَ حتى عام 1972 الرجل القوي للنظام. يتحدثُ بيرو أيضًا عن قضيّة اختفائه وعن مزاعم السلطات المغربيّة التي قالت إنّه انتحر بعدما أطلقَ النار على نفسه بأربع رصاصات وذلكَ عقبَ مُشاركته في المحاولة الانقلابيّة ضد الحسن الثاني.
  • أبراهام السرفاتي: حسبَ الكتاب أيضًا فإنّ أبراهام السرفاتي (يُكتب في مواضع أخرى إبراهيم السرفاتي) كانَ شيوعيًا من أصل يهودي وأحد القلائل الذين شككوا في المطالبة المغربية بالصحراء الغربية.

النظام القضائي البورجوازي/القوة الفرعونية

يوضح بيرو في هذهِ الفقرة شخصية الحسن الثاني وطريقة عمله كما يوضّحُ أهداف «النظام القمعي» في المغرب فيقولُ في إحدى الصفحات: «هناك نظامان في المغرب؛ واحدٌ يسودُ في النهار وثانٍ في الليل وهكذا يوجد «نظام قانوني منظم وفقًا لمعايير الديمقراطية البرجوازية» إلى جانب «نظام القوة الفرعونية».»




الأربعاء، 3 فبراير 2021

لقاء جمعية اجيال بالمناضل عبد الرحمان شوجار الجزء الاول

 لقاء جمعية اجيال بالمناضل عبد الرحمان شوجار الجزء الاول



عبد الرحمان شوجار: حياة على حد البندقية والقضبان 5

 عبد الرحمان شوجار: حياة على حد البندقية والقضبان 5



نشر في أزيلال أون لاين يوم 20 - 05 - 2008


عبد الرحمان شوجار: حياة على حد البندقية والقضبان
بالنسبة لسعيد بونعيلات الذي كان محكوما بالإعدام ومن المفروض أن يقيم في زنزانة الإعدام تركوه معنا .
بدأنا نتكيف شيئا فشيئا مع أجواء السجن . بعد أسبوعين بدأت زيارة بعض العائلات لأقربائها من المعتقلين . كما كان المحامون يترددون علينا بين الفينة والأخرى للرفع من معنوياتنا .
كان سعيد بونعيلات اكثر تجربة في النضال والصراع لأنه من قيادي حركة المقاومة وكان من المقاومين الذين لجاءوا إلى الشمال بعد اكتشاف أمرهم بالدار البيضاء مثلما كان سائقا لابن بلا . وعمق هذه التجارب وتعقدها وضراوتها مكن سعيد بونعيلات من تقبل الحكم بالإعدام في حقه كشيء عادي جدا .
وفي دار المقري لم يستطيعوا أن ينتزعوا منه ولو معلومة واحدة رغم شدة التعذيب التي كادت تودي به إلى الموت وفي الأخير بدءوا يطلبون منه أن يقول لهم أي شيء لكي يبرروا به واقعة اعتقاله .
بالنسبة للمعتقلين ذوي التجارب الكبيرة في النضال لم يتأثروا بما وقع رغم قساوة الأحكام وكانت معنوياتهم جد مرتفعة باطنا وظاهرا . أما بالنسبة للذين كانت تجربتهم النضالية متواضعة ومنهم من لم تكن له أية علاقة بما وقع . بل اعتقل كما قلت جزافا ، بالنسبة لهؤلاء كانوا يتظاهرون بالاتزان والثبات لكن في العمق كانوا متأثرين كثيرا لأن البعض منهم اعتقل وعذب وحكم عليه بالسجن فقط لأنه تناول وجبة عشاء مع فلان أو علان .. أو حياه في السوق أو صافحه في الطريق أو تجمعه به قرابة ..
بعض المعتقلين من ازميز ودمنات زارتهم عناصر مخابرات ببيوتهم وسألوهم سؤالا بسيطا هو :
هل تعرف فلان ؟
عندما أجابوا بنعم اعتقلوهم وعذبوهم وحوكموا وصدرت في حقهم أحكام قاسية وبقوا طيلة مدة السجن يبحثون عن سبب مقنع يبرر اعتقالهم . ويمكن لي أن أقول أن 70 % تقريبا من المعتقلين لم تكن لهم لا ناقة ولا جمل فيما جرى بل أعتدي عليهم وعلى عائلاتهم ظلما وعدوانا وزج بهم في قضية لا يعرفون عنها شيئا واعتقلوا عبثا وأجهزوا على مصيرهم مجانا وهذا من بين ما يؤلمني في هذه التجربة التي تجسد أقصى درجات الظلم والتلاعب ببرودة دم إجرامية بحياة البشر .
محاولتا الانقلاب والمؤتمر الاستثنائي
كان يسمح لنا بالاستحمام مرة واحدة في الاسبوع . بدأنا نتعرف على نزلاء السجن المركزي فوجدنا مجموعة من المعتقلين السياسيين مردومة فيه منذ بداية الستينات . كمجموعة بن حمو القادري ، وتضم بنموسى وأحمد البلد المحتجزين منذ 1960 ومجموعة القايد بنحمو والقايد البشير الذين اعتقلا في قضية بني ملال في نفس السنة وهي قضية مشهورة جدا حيث أن القايد بنحمو صعد إلى الجبل رفقة أفراد من القوات المساعدة التابعين له وأعضاء من جيش التحرير .. وفي جبل أمزميز كان القايد البشير والقايد البزيوي يقودان مجموعة أخرى فتعقبهم القبطان الغول قائد حامية مراكش أنذاك . حصلت مواجهة بينه في الجبل قتل فيها القايد البشير أما القايد البزيوي فقد جرح . ووجدنا كذلك مجموعة الحسين السكليس وهو الذي اغتال القبطان الغول بالفيلا التي كان يسكنها بمراكش واعتقل فورا وحكم عليه بالإعدام ونفذ فيه بسرعة . اما رفاقه الذين حكم عليهم بالمؤبد فوجدناهم بالسجن المركزي معتقلين فيه منذ 1960 وهم المحجوب الكانوني وعلال وشخص ثالث لم اعد اذكر اسمه، وثلاثتهم يعيشون كلهم بمراكش حاليا .
ثم مجموعة شيخ العرب ابراهيم الحلاوي وباعقيل وابراهيم بوالشوا والهريم واخرين
وجدنا كذلك بلحاج الأطلسي الذي اعتقل إثر محكمة مراكش الشهيرة وحكم عليه بالاعدام وحاليا يعيش كذلك بمراكش .
تعارفنا جميعا وكنا نتواصل فيما بيننا إلى أن قام الجينرال افقير بالمحاولة الإنقلابية الثانية التي تمت في الطائرة . والكل يعلم ان أفقير كانت له يد غير مباشرة في المحاولة الإنقلابية الأولى التي وقعت بالصخيرات . وقد بينت عملية الطائرة بالملموس للمتشككين بأن كل الصراعات السياسية التي دارت طيلة الستينات كانت من تدبير الجينرال أفقير وافتعاله وأنه بذلك كان يحاول تصفية الإتحاد الوطني للقوات الشعبية ومناضليه في أفق الإطاحة بالنظام الملكي لكي تخلو له الساحة السياسية لمباشرة حكم عسكري فاشستي بالمغرب .
احضروا إلى السجن المركزي بالقنيطرة عناصر جيش متورطة في الإنقلاب فنقلونا نحن الذين حوكمنا بمراكش إلى سجن سيدي سعيد بمكناس . وهناك عشنا محنة حقيقية . إذ كان هذا السجن صغيرا جدا . حبسونا في زنازن ضيقة إلى الحد الذي لم نكن ننام فيه إلا بالتناوب . في الوقت الذي ينام فيه البعض يبقى الأخرون قياما لأنه لا وجود بمساحة كافية للجميع . كنا نشعر بأنفسنا كحشرات او جرذان في جحر أو سمك في علبة سردين . أعلنا عن إضراب لا محدود عن الطعام احتجاجا على هذه الوضعية . نفذناه فجاءنا مدير السجن يستجلي مطالبنا . قلنا له :
اننا لا نطلب منكم أي شيئ .. فقط نريد إرجاعنا إلى السجن المركزي بالقنيطرة ... فهذا السجن الذي نقيم فيه الآن معد للسجناء العاديين ذوي المدد المحدودة ، أما نحن فطبيعة ملفنا سياسية ومدة سجننا طويلة لذلك يجب إرجاعنا الى السجن المركزي .
لم يستجب المدير لمطلبنا فاتفقنا على المطالبة بحضور وزير العدل للتحاور معنا . حينئذ كان البشير بلعباس هو الذي يتحمل مسؤولية حقيبة وزارة العدل في الحكومة . وبالفعل حضر واعطانا وعدا بإرجاعنا إلى السجن المركزي الذي نقلونا اليه بعد مدة يسيرة من ذلك .
في 3 مارس 1973 وقعت أحداث مولاي بوعزة الشهيرة . فبدأت الإعتقالات ثانية ودشنت حملة شرسة من القمع الأسود في الأطلس المتوسط وباقي البوادي والمدن المغربية .وبدون مبالغة كانت الطريقة التي تتم بها الإعتقالات في هذه المناطق سنة 73 مماثلة لما نشاهده الآن في منطقة الشيشان . اذ كانوا يعمدون إلى هدم الدور كاملة وهي آهلة بالسكان . وقتل فيها الكثير من المناضلين كمحمد بنونة وابراهيم التزنيتي ومولاي سليمان العلوي ... واعتقلوا النساء الحوامل والأطفال والشيوخ والشبان ... ومركز الكوربيس المتواجد بالدار البيضاء انفا شاهد على فداحة القمع الذي ذهبت ضحيته فيئات متعددة ومتنوعة من شرائح المجتمع . وقد سبق لي عندما كنت في الجزائر أن قرات كتابا يحمل عنوان ‘' سقوط برلين ‘' يتضمن عدة تفاصيل حول القمع الهتليري ومع ذلك لم أجد فيه ما يماثل شراسة القمع الذي تعرض له المغاربة في هذه الفترة .
بفعل أحداث مولاي بوعزة ضيق علينا الخناق مرة أخرى بالسجن المركزي . ولم يعد يسمح للعائلات بزيارتنا وتواثرت محاولات استفزازنا من قبل الحراس .
انطلقت المحاكمات العسكرية فاكتظ السجن بنزلاء جدد منهم العسكريون المتورطون في محاولة انقلاب الصخيرات وضمنهم شقيق العقيد اعبابو الذي قاد المحاولة الإنقلابية الاولى بمعية المذبوح ومنهم عناصر الجيش المتورطة في المحاولة الإنقلابية الثانية . وكذلك المعتقلون في أحداث 3 مارس 73 بمولاي بوعزة . وامتلأ السجن عن آخره وافتتحت معتقلات أخرى كتازمامرت وقلعة مكونة وتازناغت ومعتقلات الجنوب .
هذا الجو المضغوط أثر على وضعيتنا وأصبحوا يعاملوننا معاملة قاسية أكثر من السابق ، معتبرين أن كل ما وقع هو مجرد نتيجة لما قمنا به . وأن كل العمليات التي عرفها المغرب بعد اعتقالنا جاءت ثأرا لما طالنا من اعتقالات حسب رايهم .
كان يسمح لنا بالاستحمام مرة واحدة في الاسبوع . بدأنا نتعرف على نزلاء السجن المركزي فوجدنا مجموعة من المعتقلين السياسيين مردومة فيه منذ بداية الستينات . كمجموعة بن حمو القادري ، وتضم بنموسى وأحمد البلد المحتجزين منذ 1960 ومجموعة القايد بنحمو والقايد البشير الذين اعتقلا في قضية بني ملال في نفس السنة وهي قضية مشهورة جدا حيث أن القايد بنحمو صعد إلى الجبل رفقة أفراد من القوات المساعدة التابعين له وأعضاء من جيش التحرير .. وفي جبل أمزميز كان القايد البشير والقايد البزيوي يقودان مجموعة أخرى فتعقبهم القبطان الغول قائد حامية مراكش أنذاك . حصلت مواجهة بينه في الجبل قتل فيها القايد البشير أما القايد البزيوي فقد جرح . ووجدنا كذلك مجموعة الحسين السكليس وهو الذي اغتال القبطان الغول بالفيلا التي كان يسكنها بمراكش واعتقل فورا وحكم عليه بالإعدام ونفذ فيه بسرعة . اما رفاقه الذين حكم عليهم بالمؤبد فوجدناهم بالسجن المركزي معتقلين فيه منذ 1960 وهم المحجوب الكانوني وعلال وشخص ثالث لم اعد اذكر اسمه، وثلاثتهم يعيشون كلهم بمراكش حاليا .
ثم مجموعة شيخ العرب ابراهيم الحلاوي وباعقيل وابراهيم بوالشوا والهريم واخرين
وجدنا كذلك بلحاج الأطلسي الذي اعتقل إثر محكمة مراكش الشهيرة وحكم عليه بالاعدام وحاليا يعيش كذلك بمراكش .
تعارفنا جميعا وكنا نتواصل فيما بيننا إلى أن قام الجينرال افقير بالمحاولة الإنقلابية الثانية التي تمت في الطائرة . والكل يعلم ان أفقير كانت له يد غير مباشرة في المحاولة الإنقلابية الأولى التي وقعت بالصخيرات . وقد بينت عملية الطائرة بالملموس للمتشككين بأن كل الصراعات السياسية التي دارت طيلة الستينات كانت من تدبير الجينرال أفقير وافتعاله وأنه بذلك كان يحاول تصفية الإتحاد الوطني للقوات الشعبية ومناضليه في أفق الإطاحة بالنظام الملكي لكي تخلو له الساحة السياسية لمباشرة حكم عسكري فاشستي بالمغرب .
احضروا إلى السجن المركزي بالقنيطرة عناصر جيش متورطة في الإنقلاب فنقلونا نحن الذين حوكمنا بمراكش إلى سجن سيدي سعيد بمكناس . وهناك عشنا محنة حقيقية . إذ كان هذا السجن صغيرا جدا . حبسونا في زنازن ضيقة إلى الحد الذي لم نكن ننام فيه إلا بالتناوب . في الوقت الذي ينام فيه البعض يبقى الأخرون قياما لأنه لا وجود بمساحة كافية للجميع . كنا نشعر بأنفسنا كحشرات او جرذان في جحر أو سمك في علبة سردين . أعلنا عن إضراب لا محدود عن الطعام احتجاجا على هذه الوضعية . نفذناه فجاءنا مدير السجن يستجلي مطالبنا . قلنا له :
اننا لا نطلب منكم أي شيئ .. فقط نريد إرجاعنا إلى السجن المركزي بالقنيطرة ... فهذا السجن الذي نقيم فيه الآن معد للسجناء العاديين ذوي المدد المحدودة ، أما نحن فطبيعة ملفنا سياسية ومدة سجننا طويلة لذلك يجب إرجاعنا الى السجن المركزي .
لم يستجب المدير لمطلبنا فاتفقنا على المطالبة بحضور وزير العدل للتحاور معنا . حينئذ كان البشير بلعباس هو الذي يتحمل مسؤولية حقيبة وزارة العدل في الحكومة . وبالفعل حضر واعطانا وعدا بإرجاعنا إلى السجن المركزي الذي نقلونا اليه بعد مدة يسيرة من ذلك .
في 3 مارس 1973 وقعت أحداث مولاي بوعزة الشهيرة . فبدأت الإعتقالات ثانية ودشنت حملة شرسة من القمع الأسود في الأطلس المتوسط وباقي البوادي والمدن المغربية .وبدون مبالغة كانت الطريقة التي تتم بها الإعتقالات في هذه المناطق سنة 73 مماثلة لما نشاهده الآن في منطقة الشيشان . اذ كانوا يعمدون إلى هدم الدور كاملة وهي آهلة بالسكان . وقتل فيها الكثير من المناضلين كمحمد بنونة وابراهيم التزنيتي ومولاي سليمان العلوي ... واعتقلوا النساء الحوامل والأطفال والشيوخ والشبان ... ومركز الكوربيس المتواجد بالدار البيضاء انفا شاهد على فداحة القمع الذي ذهبت ضحيته فيئات متعددة ومتنوعة من شرائح المجتمع . وقد سبق لي عندما كنت في الجزائر أن قرات كتابا يحمل عنوان ‘' سقوط برلين ‘' يتضمن عدة تفاصيل حول القمع الهتليري ومع ذلك لم أجد فيه ما يماثل شراسة القمع الذي تعرض له المغاربة في هذه الفترة .
بفعل أحداث مولاي بوعزة ضيق علينا الخناق مرة أخرى بالسجن المركزي . ولم يعد يسمح للعائلات بزيارتنا وتواثرت محاولات استفزازنا من قبل الحراس .
انطلقت المحاكمات العسكرية فاكتظ السجن بنزلاء جدد منهم العسكريون المتورطون في محاولة انقلاب الصخيرات وضمنهم شقيق العقيد اعبابو الذي قاد المحاولة الإنقلابية الاولى بمعية المذبوح ومنهم عناصر الجيش المتورطة في المحاولة الإنقلابية الثانية . وكذلك المعتقلون في أحداث 3 مارس 73 بمولاي بوعزة . وامتلأ السجن عن آخره وافتتحت معتقلات أخرى كتازمامرت وقلعة مكونة وتازناغت ومعتقلات الجنوب .
هذا الجو المضغوط أثر على وضعيتنا وأصبحوا يعاملوننا معاملة قاسية أكثر من السابق ، معتبرين أن كل ما وقع هو مجرد نتيجة لما قمنا به . وأن كل العمليات التي عرفها المغرب بعد اعتقالنا جاءت ثأرا لما طالنا من اعتقالات حسب رايهم .
كانت عائلتي تبحث عني منذ 1964 عندما اقتحمت قوات الآمن بيت والدي ..انقطعت أخباري عنها وعاشت في حيرة وتيه كبيرين .. تساءلت هل مازلت على قيد الحياة ؟ هل أنا في السجن ؟ هل نفذ في حقي حكم الإعدام ؟ خصوصا أن تلك السنوات عرفت بالاغتيالات والاختطافات وإعدامات بلا حكم ولا محاكمة ، وكانت حيرتها تصطدم بعدم قدرتها على مواجهة الواقع ، لأن أي سؤال عني سيعرضها لنفس مصيري أو أكثر وفي أحيان أخرى أعتبر بالنسبة لها ميتا لكن مرارتها لا تعرف حتى مكان قبري ...
ست سنوات عاشتها العائلة وسط هذا التيه إلى أن بادرت بمراسلتها وأنا في السجن العسكري سنة 1970 بعدما كنت أضع نفسي مكانها لأحس أن معاناتها جد مضاعفة بجهلها لمصيري ، وهي تدرك أنني لا أعرف حتى نبأ وفاة والدي وهو الموضوع الذي سيكون أساسيا في ردها على رسالتي .
لكن لم تكن لها القدرة على زيارتي بالسجن . نظرا للبعد وكذلك للعامل الاقتصادي إضافة إلى الخوف المتصاعد أمام المعاملات الاستفزازية والعراقيل التي تواجهها عائلات وأسر المعتقلين .
داخل السجن لم يكن هم العائلة وحده هاجسا يراودنا بين الحين والآخر بل كانت الأحداث السياسية التي تنسج خارج السجن تحتل مساحات كبيرة من اهتماماتنا وكنا كمعتقلين محسوبين على حزب القوات الشعبية تتفاوت اهتماماتنا وتكويننا السياسي وفي نفس الوقت تدخلت عوامل كثيرة منها أن الحزب كان مجمدا لفترة طويلة مما أدى إلى عدة خلافات وتشكلت تيارات . فالخلاف حول قيادة الحزب اشتد بين طرح يقول بأن القيادة يجب أن تكون خارج الوطن وهو طرح ينادي به الفقيه البصري .. وطرح مناقض يدعو إلى أن تشكل القيادة داخل الوطن ويدعو إليه كل من عبد الرحيم بوعبيد وعمر بن جلون وآخرون .. وكنا كمجموعة من المعتقلين يطلق علينا اسم مجموعة الخارج داخل السجن باعتبار المدة الطويلة التي قضيناها خارج الوطن بكل من الجزائر وسوريا وإسبانيا وغيرها من الدول الأخرى ... زد على هذا أن المجموعة صنفت داخل السجن بالشيوعيين وقد عانت من هذه التصنيفات إلى غاية خروجها من السجن ...
في ظل كل هذه المعطيات تم التحضير للمؤتمر الاستثنائي للحزب وهو الأمر الذي لم نكن نعلم بتفاصيله سواء فيما يتعلق بأسلوب التنظيم أو طريقة إنجاز مشاريع التقارير علما أن لدينا تصورات وأفكار كان بالإمكان أن نساهم بها ، هناك بعض إخواننا من المعتقلين تمكنوا من معرفة بعض التفاصيل حول التحضيرات المخصصة للمؤتمر كأحمد بن جلون الذي كان يزوره أخوه المناضل عمر بن جلون ويزوده ببعض المعطيات ومن خلاله نعرف النذر القليل منها ... وبالمناسبة كان عمر بن جلون كلما اختلف مع أخيه احمد يخاطبه :
ألا تعرف معنى الجدلية ؟
وهذا السؤال في حد ذاته يستنبط منه أن عمر كان يؤمن بتعايش الاختلافات ضمن الوحدة داخل الحزب .
وانعقد المؤتمر الاستثنائي واعتبرنا أنفسنا غير معنيين بمقرراته ، أي أننا كنا متعاطفين مع الطرح الذي تقدم به الفقيه البصري الذي لم يستمع لرسالته في المؤتمر ، وهو ما دعاه إلى نشر تقريره المضاد في الصحف خارج الوطن ، في الوقت الذي استمع فيه إلى الرسالة الصوتية للأخ عبد الرحمن يوسفي الذي ساند طرح القيادة الداخلية .
لكن عندما خرجنا من السجن وتوضحت لدينا الرؤيا وتوفرت لدينا المعطيات الحقيقية وأدركنا أبعاد التحليل الملموس للواقع الملموس ساندنا بكل قوة ما جاء في التقرير الأيديولوجي للمؤتمر الاستثنائي وانخرطنا في الدفاع عن شعاره الخالد : تحرير ديموقراطية اشتراكية .. خصوصا بعد ما تبين أن هناك تحولات إيجابية تفرض التوجه نحو الحلول السياسية والديموقراطية .
من الأحداث المؤلمة التي زادت من ظلمة غياهب سجننا اغتيال الشهيد عمر بن جلون .. تلقينا هذا النبأ كصاعقة نزلت علينا جميعا خصوصا أن هذا الرجل لم يكن عاديا بل كان واحدا من أنشط الفعاليات الحزبية التي لا تهدأ سواء على المستوى السياسي أو النقابي حيث كانت له تأثيرات واضحة في صفوف القواعد الحزبية ووسط الجماهير العمالية .
أدركنا أن صراعات أخرى مازالت تنتظرنا ولا بد من مواجهاتها مادام أسلوب الاغتيالات والاختطافات والمحاكمات الصورية مازال متواصلا وهو ما جعلنا نحن المتشبثين بطرح الفقيه البصري آنذاك ندرك أن نهج الأسلوب السياسي مع مغرب القمع لا يمكن أن ينقذ شعبنا وأن المواجهة وحدها هي السبيل للخلاص من هذا الوضع . ورغم اختلافنا مع طرح عمر بن جلون لكن اغتياله وبتلك الطريقة ومحاولة النظام استعمال بعض الإسلاميين الظلاميين كورقة تخدم مصالحه في تصفية رموز الحركة التقدمية بالمغرب , اعتبرناه مؤامرة تمثل امتدادا لجريمة اختطاف الشهيد المهدي بنبركة .
كانت عائلتي تبحث عني منذ 1964 عندما اقتحمت قوات الآمن بيت والدي ..انقطعت أخباري عنها وعاشت في حيرة وتيه كبيرين .. تساءلت هل مازلت على قيد الحياة ؟ هل أنا في السجن ؟ هل نفذ في حقي حكم الإعدام ؟ خصوصا أن تلك السنوات عرفت بالاغتيالات والاختطافات وإعدامات بلا حكم ولا محاكمة ، وكانت حيرتها تصطدم بعدم قدرتها على مواجهة الواقع ، لأن أي سؤال عني سيعرضها لنفس مصيري أو أكثر وفي أحيان أخرى أعتبر بالنسبة لها ميتا لكن مرارتها لا تعرف حتى مكان قبري ...
الخروج إلى السجن الاكبر
تبنت محكمة النقد والابرام الحكم الصادر في حقنا .
قضيت ثماني سنوات في السجن من أصل عشرين سنة . واستقبل المرحوم الحسن الثاني وفدا عن المقاومة . فاطلق سراح سعيد بونعيلات وبعده الحبيب الفرقاني وبن منصور والدحيش وأحمد بن جلون وبركات اليزيد والحاج محمد أيت المؤذن وعناصر اخرى ...
بعد مضي سبع سنوات وثلاثة أشهر على اعتقالي قررت إدارة السجن توزيع المجموعة الباقية على السجون الأخرى حيث نقلوا البعض الى وجدة والبعض الاخر الى وطيطا وعلي مومن ... أما انا فقد رحلوني إلى آسفي رفقة معتقل من الجنوب يسمى بوجمعة بن ابراهيم .
في أخر شهر نزفمبر 1977 صدر العفو الملكي في حقنا . فاطلق سراح المعتقلين بمن فيهم المحكومين بالمؤبد .
عندما غادرت سجن آسفي استقبلني أخي القاطن بنفس المدينة . وتلقيت زيارات الإخوة المناضلين . بعد ذلك ذهبت لزيارة الأقرباء بأيت ويرار بنتيفة ناحية تانانت . قضيت عندهم عشرين يوما صلت فيها الرحم مع أفراد عائلتي .. بعدها سافرت إلى الدار البيضاء لرؤية بعض المناضلين ثم عدت إلى آسفي .. في هذه السنة انتهت مرحلة من حياتي طبعتها المطاردات البوليسية والاختطافات في الغياهب المظلمة والأبية الباردة والتعذيب الوحشي والمحاكمات الصورية الجائرة والإقامة في الزنازن المنفردة ..لتبدأ مرحلة أخرى تسودها محنة من نوع آخر ...
عندما غادرت السجن ذقت طعم الحرية وأدركت في نفس الوقت أنني خرجت من سجن صغير الى سجن كبير . وغدا سؤال ما العمل ؟ يراودني بحدة لأنني مقبل على فصول جديدة من حياتي بتحديات جديدة . هل بإمكاني أن أحيى حياة طبيعية من جديد ؟ هل يمكنني وأنا في سن الأربع والأربعين أن أرمم ما تبقى من حياتي ؟ هل بإمكاني أن أحصل على عمل أنا الذي قضيت جملة عمري على حد البندقية والقضبان ؟ تركت للزمان مهمة الاجابة عن الاسئلة المحيرة .
فبقدر ما كنت سعيدا لملاقاة إخواني المناضلين بآسفي بقدر ما كنت تعيسا لأن وضعي أصبح أكثر إحراجا ... وهو ما دعاهم الى التفكير في وضعيتي الإجتماعية فاتصل بعضهم بعامل اقليم آسفي قصد توفير شغل لي .. وبالفعل استدعاني لكنني رفضت مقابلته . فبعد كل هذا النضال الذي خضته لن أسمح لنفسي بأن تجود علي الداخلية بعمل يعد تشفيا وإشفاقا . فكيف يمكنني أصمد في غياهب المعتقلات السرية والسجون متحملا كل أصناف التعذيب والوحشية التي ما زال بعضها موشوما في جسدي .. كل هذا من أجل كرامتي وكرامة هذه الأمة فكيف أقبل اليوم تمريغ كل هذا التراث النضالي في التراب ؟؟؟
اتخذت القرار بكل مسؤولية وتحد .. في تلك الاثناء كان الأخ محمد اليازغي يبحث عني وهو الأمر الذي سيخبرني به الاخ يزيد البركة عندما زرت مقر جريدة المحرر .
اتصلت بالأخ محمد اليازغي واقترح علي الإنضمام للعمل كموظف بمكتب الفريق الاتحادي بالبرلمان وهو ما تم بالفعل ..
بعد تقاعدي التحقت بمدينة مراكش للعيش فيها رفقة أبنائي ومواصلة النضال في الواجهة الديموقراطية مع حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية .. وساهمت رفقة مجموعة من المعتقلين في جمع شتات المعتقلين السياسييين السابقين وتأسيس المنتدى المغربي للانصاف والحقيقة الذي نناضل فيه من أجل الكشف عن حقيقة ملفات الفترة السوداء من تاريخ المغرب المعاصر والحيلولة دون رجوعها .
عندما ألتفت إلى الوراء ملقيا نظرة على حياتي كما عشتها أجد أن الزمان الذي يدفعني رويدا رويدا إلى ما أنا عليه الآن ليس سوى قوة الحلم الكبير الذي ركبه من قبلنا اولئك الذين أضاؤوا التاريخ وسيركبه من بعدنا أولئك الذين سيرثون شعلته ووهجه وهو الحلم بأن نرى عالما جديرا بالإنسان .
طوردت وعذبت وسجنت وحملت البندقية وقاتلت في جبهات وانكسرت أحلام وولدت أحلام ومع كل هذا وفي تجربة جديدة مهما بلغت قساوتها أوقن أكثر أن الإنسان في جميع الحالات داخل السجن أو خارجه ، في لحظات الإرتياح والشعور بالآمان أو في لحظات الخوف والمطاردة يبقى حرا . يمكنهم أن يعتقلوا أجسادنا ويعذبوها لكنهم لن يستطيعوا مصادرة حريتنا وانطلاق احلامنا .
هذا كل ما استطعت أن أصل إليه من خلال هذا النبش في الذاكرة .. لا أدعي أنني وحدي من عاش و صاغ أحداث المرحلة بل هناك الكثيرون ممن ذكرت أسماءهم وممن غفلتهم بغير قصد .. لا أنفي أن الكثير من المعطيات لم أستحضرها أو أن النسيان رمى عليها ظلاله .. وعلى باقي رفاقي ممن عاشوا التجربة أن يفتحوا الملفات ويوضحوا لجيل اليوم كيف ناضلت الأجيال السابقة من أجل أن يعيش المغرب حرا كريما ويبرزوا معاناتهم ويكشفوا عن مواقف بطولية لرجال استرخصوا أرواحهم من أجل مواجهة أعداء سودوا مرحلة من تاريخ هذا الوطن . وملن حق المغاربة أن يعرفوا تاريخهم .
محمد المبارك البومسهولي
يتبع

عبد الرحمان شوجار: حياة على حد البندقية والقضبان 4

 عبد الرحمان شوجار: حياة على حد البندقية والقضبان 4



نشر في أزيلال أون لاين يوم 20 - 05 - 2008


عبد الرحمان شوجار: حياة على حد البندقية والقضبان
معركة من اجل الشمس
اكثر من ذلك فمنذ اعتقالنا بدار المقري لم نغتسل أبدا بالصابون فأصبحت أيدينا بفعل الأوساخ العالقة كما لو طليت بزيت متسخ . والكثير منا أصيب بسبب قلة النظافة بأمراض الجلد كالحكة و والقمل ولم نعد نتحل أجسادنا بسبب الروائح الكريهة المنبعثة منها بقوة .
كان الشخص المكلف بتوزيع الطعام علينا يترك أبواب الزنازين مفتوحة حتى ينتهي من هذه المهمة فيعمد إلى إغلاقها . كنا نستغل هذه الفرصة للتواصل بيننا . في حين كان بعض الحراس ممن يبدون تعاطفا واضحا معنا يحاولون تجاهل ذلك . وفي أحيان أخرى نفتح الكوة الصغيرة التي توجد في باب الزنزانة ثم نبدأ في التواصل مع يعضنا بالإشارات .
لم يكن كل حراس السجن من طينة واحدة . فرغم الظروف المشددة والسياق الحساس لوضعيتنا كمعتقلين سياسيين يبادر بعض الحراس إلى الاعتذار لنا ويأسفون كثيرا لوضعيتنا ولمآلنا ويتبرأون من الممارسات التي تطالنا داخل السجن . فنسمع بعضهم يصرحون بشكل واضح مباشر :
راه بحالنا بحالكم .. راه انتوما اللي جبتونا ما شي احنا اللي جبناكم .. كنا مع وليداتنا حتى كالوا لينا انجيو لهنا نقابلوكم .. راه كلنا معتقلين هنا احنا وانتوما . او ماعلينا غير نصرفو هاذ المكتاب حتى يفرج الله ...
طلبنا رؤية مدير السجن لفتح حوار مباشر معه . فتحوا أبواب الزنازين وأمرونا أن نفق عندها . فجاء الكومندار بوعزة واخذ يسألنا واحدا واحدا . عندما وصل إلي قال لي :
ماذا تريد ؟
عرفت جيدا أن مخاطبي شخص عسكري ليس له منطق سياسي وما يهمه هو الانضباط الصارم ولذلك فالحديث معه يجب أن يراعي هذه الخاصية ومن المفروض أن يكون ممنطقا اكثر حتى نتمكن من إقناعه بمطالبنا . قلت له :
مون كومندان ، مرت ثمانية اشهر لم نر خلالها الشمس . عندما اختطفتمونا واحتجزتمونا بدار المقري اعتبرنا ذلك مركزا غير قانوني . أما الآن فنحن على ذمة قاضي التحقيق العسكري وفي مؤسسة قانونية . أي أننا في عهدة العدالة . ونطلب منكم أن تنظروا في وضعيتنا الإنسانية وفق ما يقره لنا القانون كأبرياء إلى أن تثبت إدانتنا من طرف القضاء .. نحن في حاجة كباقي البشر إلى الشمس . نظر إلي مليا فقال :
سنرى .. سنرى .. ثم انصرف .
في ذلك اليوم قرر المدير السماح لنا بالخروج إلى ساحة السجن لمدة عشر دقائق فقط .
أخرجونا بالتناوب في شكل طابور يبلغ عدد أفراده حوالي عشرين شخصا . وكان أول ما أثارني في هذه الساحة وجود حائط مملوء بالثقوب والحفر الصغيرة .و أرضيته مفروشة بحصى صغير ( الكرافيت ) . ارتبت في أمره وخمنت مع نفسي :
هاذ البلاصا تتوقع فيها شي حاجة ماشي هي هاديك .
عشر دقائق تمر بسرعة البرق كما لو كان الوقت بدوره يتواطأ معهم ضدنا ويعمد إلى الانتقام منا بسرعة . فما نكاد نرى السماء ونستنشق الهواء حتى يأمروننا بالدخول .
كنا نقوم بجولة حول الساحة في طابور مزدوج والحراسة مشددة لمنعنا من التواصل بعضنا . ومع ذلك كنا ننتزع بعض الكلمات او الإشارات بحذر كبير لأننا إذا ضبطنا سيكون عقابنا هو الكاشو نوار أي الزنزانة السوداء وهي زنزانة منفردة مظلمة ومقرفة . وسبب ذلك يعود إلى أمر أصدره قاضي التحقيق العسكري يقضي بعزلنا على بعضنا ومنعنا من أي اتصال حتى ينتهي التحقيق .
قررنا الدخول في إضراب عن الطعام . بادرنا نحن نزلاء الكولوار الذي كانت فيه زنزانتي إلى تنفيذ هذا القرار أولا على أن يتكفل الحراس نقل الخبر إلى باقي المعتقلين في الكولوارات الأخرى . إذ كان بالسجن العسكري مجموعة من الحراس الذين يتعاونون معنا بحذر كبير لانهم إذا ما ضبطوا فسيكون مصيرهم افظع مما نحن عليه .
كان معي في نفس الكولوار سعيد بلعقدة وهو استاذ من مدينة الجديدة والحفيان محمد ميكانيكي من نفس المدينة . ومحمد بن عزوز استاذ من مراكش والأستاذ الصولاج وهو محامي بمراكش وانتظام عيسى وهو استاذ السلك الثاني من تالوين ومحمد رشاد فلاح من امزميز والزهراوي كهربائي من الجديدة والالسبيطي من نفس المدينة والحسين البزبوز ومحمد بالماضي ولحسن قروش وحميد المطاعي ومسحق الهاشمي ومولاي اسماعيل السكر وكلهم من امزميز واليعقوبي وهو من منطقة ثلاث نيعقوب وأخرون ... كنا تقريبا عشرين معتقلا في نفس الكولوار قررنا جميعا الدخول في الاضراب عن الطعام طالبنا بالزيادة في الحصة المخصصة للخروج إلى الساحة قصد الاستفادة من أشعة الشمس وتحسين جودة الطعام وإضافة غطاء . كانت هذه المطالب جد معقولة ولا تفترض مصاريف مادية كثيرة .
شاع خبر امتناعنا عن الأكل فأعلنت حالة الطوارئ بالسجن وبدأت التهديدات تستهدفنا مع التلويح بالعقاب في حق المضربين .
بعد ساعة جاء الكومندار بوعزة بصولجانه كالعادة . وبدأ يستفسرنا واحدا واحدا عن سبب الإضراب عن الطعام . وبعد الاستماع إلينا قال :
« يستحيل تلبية مطالبكم . وكل ما هو ممكن فعله لبيناه لكم سالفا . »
بقينا مضربين عن الطعام لمدة ثلاثة أيام . وفي الرابعة بعد الزوال من اليوم الثالث أخرجونا من الزنازن . واقتادونا في شكل طابور . اعتقدنا حينها انهم سيذهبون بنا إلى إدارة السجن قصد التحاور مع المدير, فإذا بهم يوقفوننا في الساحة بمحاذاة حائط وأمامنا يوجد طابور من العسكريين مسددين فوهات بنادقهم تجاه صدورنا . أيقنا أنها فرقة الإعدام . تسارعت ضربات قلبي واشتد خفقانه . رفعت عيني إلى السماء أتأمل الفضاء وكأني أودعه لأخر مرة ... تهت في ذكريات خاطفة لطفولتي وأسرتي ، وجه والدي وأنا اقبل يده في الصباح . ما كان يروى لي عن إعدام المقاومين من طرف الاستعمار الفرنسي ... تذكرت الموت الذي افلت منه في مواجهة عدو شرس كإسرائيل أثناء مواجهتنا له في عملية جبين .
الخوف يسري في عروقي . إيقاع تنفسي مضطرب . عرق يتصبب على الجبين . رعشة خفيفة تحرك كل أعضاء جسمي . عرى معتقل يسمى محمد الحفيان على صدره وفك أزرار قميصه في تحد وصرخ :
« هيا أطلقوا النار ... ماذا تنتظرون ... اقتلونا ... هيا . هيا .. »
جاء عسكري من رتبة ادجودان شاف ( مساعد أول ) اعتقدت انه سيسألنا عن آخر ما نطلبه قبل أن يعدمونا . قال لنا :
« بماذا تطالبون ؟ »
كررنا له مطالبنا مرة أخرى . فسألنا أن نرشح خمسة منا للتفاوض مع الإدارة .
عندها فقط أدركت انه مازال في العمر بقية وان عملية إيقافنا أمام فوهات البنادق مجرد ترهيب لنا قصد التخلي عن مطالبنا . وبالفعل انتدبنا خمسة معتقلين منا فاستقبلهم الكومندار بوعزة . ووافق على تمديد حصة الشمس إلى نصف ساعة في اليوم وإضافة القهوة إلى وجبة الفطور وهو ما اعتبر من طرفنا إنجازا عظيما . وأمر بإضافة غطاء ثان ( كاشة ) لكل واحد منا . فكللت معركتنا بالنجاح .
عين وكيل للدولة من بني ملال يدعى بلخضر وهو من اصل بركاني للتحقيق معنا :
ولكي يقدم كقاضي تحقيق عسكري منحوه رتبة عقيد ( كولونيل ) وبالمناسبة كان ابنه ضمن مجموعة انيس بلفريج التي اعتقلت فيما بعد سنة 1973 .
عندما بدأ التحقيق معنا كان قد مر على اقامتنا بالسجن العسكري شهرين كاملين. وتتعمد المخابرات عدم مثول المعتقلين أمام العدالة الى أن تختفي آثار التعديب من الجسد ويصبح في صحة جيدة . وبالمناسبة فالمعتقلون لا يلقون اية عناية صحية اللهم من وجود ممرض يقدم بعض الاسعافات البسيطة علما أن الكثيرين عانوا الويلات من جراء التعذيب وان الاعتماد على المناعة الجسدية للمعتقلين وحدها لا يمكن ان تخفي آثار الوحشية التي تعرضوا لها .
كان من حظنا أن استفدنا بفضل الإضراب عن الطعام من بضع دقائق نرى فيها الشمس ونتشمم فيها الهواء النقي وهو ما رفع نسبيا من مستوى مقاومتنا ، ولكنها مقاومة لايمكن أن تخفي تلك الاثار الموشومة على اجسادنا الى الابد.
قبل ان أمثل أمام قاضي التحقيق كانت الكثير من الهواجس تنتابني تساءلت:
كيف يمكن أن اتعامل مع اسئلة – بلخضر- ودهائه ، علما أن لدي شك في امره كباقي زملائه هل هو فعلا قاضي تحقيق أم أنها لعبة جديدة من لعب المخابرات ؟
في احيان اخرى ، يعود إلى دهني أسلوب التعامل معنا في دار المقري وتذكرت مشاهد التعذيب الوحشي التي لاقيتها طيلة سبعة أشهر .. نفس الهواجس تنتاب باقي زملائي ، لكن نؤمن أن إخواننا في الحزب لن يتخولواعنا وهو ما قوى من عزيمتنا ورفع من معنوياتنا.
المثول امام قاضي التحقيق العسكري
وبدا التحقيق . وكانوا ينقلون كل يوم مجموعة من المعتقلين للمثول امام قاضي التحقيق . عندما دخلت الى مكتبه وجدته لوحده لابسا بدلة عسكرية ... لم يكن معه كاتب او كاتبة . قال : تفضل . اجلس .
جلست في كرسي خشبي يوجد الى يمين مكتب القاضي . طلب مني ان ادلي بجميع المعلومات الشخصية كالاسم الكامل واسم الوالد والوالدة وتاريخ ومكان الازدياد ... الخ ...
نظر الي بهدوء تام ولم تكن ملامحه توحي باي تخويف او ترهيب . قال لي :
« هل تعرف انك متهم بالاعتداء على النظام واقامة نظام اخر مكانه والمس بامن الدولة الداخلي والخارجي وتزوير الوثائق الرسمية وحمل السلاح بدون رخصة ؟ فما قولك في هذه الاتهامات الموجهة اليك » اجبته :
« اولا هذه التهم المنسوبة الي مبنية على تصور رجال الامن. والملف الذي قدمت به امامكم من ابتكار رجال المخابرات الذين اختطفوني واحتجزوني بمكان سري وغير شرعي لمدة سبعة اشهر . وفيها تعرضت لأسوأ مظاهر التعذيب وأبشع صوره . وهناك تفننوا طيلة هذه المدة في اختلاق هذه التهم ومحاولة اضفاء منطقي عليها ... »
قاطعني قائلا :
« ولكنك وقعت على هذه التهم التي تنفيها . » قلت له :
« توقيعي كان بفعل التعذيب القاسي الذي تعرضت له بدار المقري . » تم قال :
« هل لديك اضافة اخرى ؟ » قلت :
« نعم سيدي القاضي لكن أخشى أن يكون رجال المخابرات يتجسسون علينا خلف الباب ... » قال :
« لا تخشى شيئا . أنت في مكتب قاضي التحقيق . قل ماشئت . »
وبدون خوف او تردد قلت له :
« ان الذين عذبونا بدار المقري يوجدون الآن خلف هذا الباب – مشيرا الى باب مكتب القاضي – وهم يقيمون معنا باستمرار في السجن ويواصلون اهانتنا والتجسس علينا . ويعاملوننا معاملة لا تليق بانسانيتنا كما لو كنا مجرد حيوانات . ويصولون في السجن ويجولون ويصدرون الاموامر ويهددون ..كما لو كان السجن تابعا لهم وتحت سلطتهم ونفوذهم وليس تحت سلطة العدالة . لذلك اطلب منكم التدخل لتحسين وضعيتنا . فنحن نوجد في عهدتكم الان وليس في عهدة رجال الامن والمخابرات ... »
نظر الي القاضي وقال :
« سلطتي تقف عند حدود هذه القاعة ولا تتجاوزها .. وماوراء الباب لا يدخل ضمن مجال صلاحياتي ولا مسؤوليتي ولا سلطاتي ... »
بالطبع كان قاضي التحقيق ينطلق في قوله هذا من حيثيات يعرفها جيدا وسياق ضاغط يحدد له المهمة الموكولة اليه واين يجب ان تقف وفي أي تجاه تصب ..نحن كذلك كنا نعرف جيدا الطابع الصوري لكل هذه الاجراءات مثلما كنا نعرف ان لا قاضي التحقيق ولا مدير السجن كانا يتحكمان في المؤسسات المفروض انها تابعة لنفوذهم ...
عندما اخرجوني من مكتب قاضي التحقيق انتابني شعور بالخوف وانتظرت عقابا قاسيا في السجن جراء تصريحاتي ... لحسن الحظ لم يصلهم خبر ما ادليت به اثناء التحقيق ، فلم يطلني العقاب .
كانت العزلة التي عشتها في الزنزانة المنفردة تجعلني أدخل عالما اخر تناسلت فيه الهواجس والتوقعات وتتشابكت فيه الاسئلة حول ما ستؤول اليه المحاكمة وحول مصيري الشخصي ومصير باقي المعتقلين . وعقوبة الإعدام التي كنت اعتبرها احتمالا واردا يمكن ان يطبق علينا .
في أحيان كثيرة كنت استعيد ذكريات العائلة والدوار والمدرسة وأحاول التنبؤ بمصير البلاد وفي أي تجاه تسير .
في عزلة الزنزانة تتضخم الهواجس وهو ما أدى بالكثير من المعتقلين الى فقدان ذاكرتهم . فمواجهة هذه العزلة تحتاج الى طاقة كبيرة لمقاومة هذه الهواجس . وفي النضال السياسي يوجد – كما في التجارة – الربح والخسارة . وعلى من يعتبر نفسه مناضلا سياسيا وينخرط في صنع أحداث حاسمة تاريخيا ان يؤمن بهذا القانون . مع الاسف وجدت مجموعة من المعتقلين ممن لا يرغبون نفسيا في تحمل مسؤولية عملهم وفعلهم السياسي . ويلقون بها على الاخرين وهو ما يصعب عليهم تكيفهم النفسي مع واقع الاعتقال .
بالنسبة لي اعتبرت ومازلت اعتبر ان كل ما قمت به جاء من قناعة راسخة . لذلك كنت اقنع نفسي بضرورة قبول تبعات اختياراتي حتى ولو أدت بي إلى اسوأ الاحتمالات التي لا اتمناها طبعا .
في أحد أيام رمضان قرر قاضي التحقيق السماح لنا بالمراسلة .. فكتبت إلى عائلتي التي لم أراها منذ سنين , استفسرت فيها عن احوال والدي ووالدتي وباقي الاخوة
مضت ايام وأنا انتظر الرد.. بقيت أمني نفسي بما ستحمله رسالة العائلة من اخبار . ذات مساء وعند آدان صلاة المغرب جاءني أحد حراس السجن وقال لي :
« لقد أذ المؤذن ، يمكنك أن تفطر إن أردت ولكن قبل ذلك اقرأ هده الرسالة اولا .. إنها تحمل لك بشرى .. »
أخذتها من يده كطفل رأى لعبة وارتمى عليها بكل اشتياق .. قلت مع نفسي :
« وأخيرا سأتواصل مع العائلة .. وسأعرف كل الاخبار وسأطمئن .. آه كم هو صعب فراق العائلة والبعد عنها .. » فاجأني صوته مرةأخرى ليقول :
« اقرأها .. اقرأها اولا ثم افطر بعد ذلك ... »
فتحتها بلهفة لا توصف .. انتابني شعور ممزوج بالفرح والقلق .. ترددت قليلا قبل قراءتها .. تساءلت كثيرا ماذا يمكن أن تحمله لي؟ هل فعلا بشرى ؟؟ لم أطمئن للطريقة التي قدم لي بها الحارس الرسالة .. نظراته مليئتان بالشر والمكر .. وإلحاحه الشديد الذي يدعو الى الريبة والشك .. ونبرة صوته التي تحمل معها تهكما من وجهه الكريه.
اخيرا قرأتها .. انفجرت الدموع من عيني .. كان يوما أسودا .. لم افطر ولم أتناول عشائي .. الرسالة تحمل في طياتها نبأ شؤم بوفاة والدي تغمده الله بواسع رحمته .. ونزل علي الخبر كالصاعقة .. فلم أتمالك نفسي واجهشت باكيا .. لم أنم تلك الللية وعدت بذاكرتي الى كل المواقف التي كانت تحدث لي مع والدي .. لكن ما العمل وهذه مشيئة الله وقدره.
قرر قاضي التحقيق العسكري بعد استنفاد البحث والاستماع للمعتقلين عدم الاختصاص وأحال الملف على القضاء المدني.
في شهر فبراير 1970 رحلونا الى السجن المدني بمراكش بولمهارز وذلك قصد المثول أمام قاضي تحقيق مدني .. تم الترحيل وفق نفس السناريو الذي تم به في اتجاه السجن العسكري .. قيدوا أيدينا وعصبوا العينين .. واقتادونا إلى السيارات بالسب والشتم والضرب ولم نعد نر تعبا منه
ببولمهارز ارتفع عدد المعتقلين الى 192 معتقلا ، اذ أضيفت مجموعة أخرى لم تكن معنا في السجن العسكري بالقنيطرة ، منهم السي محمد اليازغيي , وملوك الشافعي , وعلي المانوزي وباقي افراد عائلته.
وبالطبع فالكل يعرف أن المرحلة السوداء التي عرفها المغرب والتي اشتد فيها القمع بشراسة إلى حد العبث والعشوائية ، هي مرحلة الستينات والسبعينات .. والاعتقال فيها لم يكن يخضع لمنطق عقلاني .. كثيرا ما اعتقلت النساء الحوامل والاطفال .. واختطف ابرياء لا علاقة لهم بالسياسة ولا بالسياسيين .. وعدب وسجن لسنوات طوال أناس ذنبهم الوحيد ارتباطهم بعلاقة قرابة وصداقة مع أحد السياسيين.
تسلمنا بسجن مراكش مديره وكان من أصل سلاوي يسمى بليزيد . وكما العادة تم توزيعنا على الزنازن .. ونظرا لقلتها اكتفوا بحبس كل من سعيد يونعيلات وأحمد بنجلون في زنازن منفردة .. أما الباقي فقد حبس في زنازن مشتركة.
الطعام كان رديئا الى حد لا يطاق .. كانت القطاني كالفول والعدس والفاصوليا ( اللوبة ) متقادمة وفاسدة الى حد امتزاجها بالحشرات كالدود والكوز.
بعض المعتقلين كان يتوصل بالمؤونة والطعام من عائلاتهم ، وهو ما يغنيهم عن تناول وجبات السجن المدودة .. وسيكون من السداجة الانتظار من الخصم الذي تصارعنا معه ان يعتقلنا ليكرمنا .. فمنطق الصراع واضح ... كما أن المناعة التي تمكن الانسان من مقاومة كل هذه الأساليب من الإهانة والإحتقار والإضطهاد نابعة أساسا من الإيمان الراسخ باختياراتنا الحرة كما أشرت إلى ذلك سابقا.
كل التفاصيل الجزئية التي تضمنها حديثي عن بعض جوانب حياتي السياسية تبين إلى أي حد كانت معركة الديمقراطية التي خضناها جد صعبة. وها نحن اليوم وبعد مرحلة طويلة من محاولة إسكات صوتنا وطمس وجودنا ينصفنا التاريخ ويثبت أننا كنا أصحاب حق .. وأن راية الديمقراطية لا يمكن إنزالها من أحلام الشعب.
بعد مرور حوالي عشرين يوما على اقممتنا ببولمهارز اخبرونا بأننا سنمثل أمام قاضي التحقيق وعين لهذا الغرض السيد الحجوي .. وكما العادة دافعنا عن أنفسا أمامه رغم أننا كنا نعلم جيدا أن المحاكمة ستكون صورية وأن كل شيء معد فيها سلفا.
لم تخل إقامتنا بالسجن المدني بمراكش من بعض المناوشات التي كان بعض الحراس يسعى على اختلاقها قصد تضييق الخناق علينا. واذكر منها الاستفزاز الذي تعمد القيام به أحد عناصر فرقة السيمي جيء به لحراستنا من القنيطرة في حق الحسين كوار والسي محمد اليازغي ومعتقل ثالث لم أعد أذكر اسمه ، حيث عمد إلى الإعتداء على اليازغي في ساحة السجن فقام الحسين كوار بالرد عليه بالمثل وكذلك فعلنا نحن.
فانجز محضر اعتداء لمحمد اليازغي وللحارس وشخص أخر لم يحضر اسمه في ذاكرتي ... وقدموا للمحكمة التي قضت بتبرئتهم .. وقد اخبرني محمد باينة فيما بعد انه هو الذي أوكل إليه التحقيق في هذه الواقعة باعتباره قاضي التحقيق.
محاكمة مراكش الكبرى
في يونيو 1971 انطلقت المحاكمة .. كان ذلك بالمحكمة الابتدائية بمراكش المتواجدة بحي بابب دكالة . عين اللعبي كرئيس لهيأة القضاء والمجبود كممثل للنيابة العامة.
عندما كنت في السجن العسكري إبان التحقيق بادر المرحوم عبد الرحيم بوعبيد الى تنسيق هيأة الدفاع حيث عين لكل معتقل مجموعة من المحامين لمؤازرته ..
بالنسبة لي تكفل بالدفاع عني كل من الاستاذ محمد الزعري وهو محام من هيأة المحامين بباريز ، وعبد الرحيم بن بركة ومحمد بوزبع الوزير المكلف بالعلاقة مع البرلمان في الحكومة الحالية وكليهما من هياة الرباط.
زارني محمد الزعري بالسجن العسكري بالقنيطرة مرة واحدة . عندما دخلت الى الغرفة المخصصة للقاءات المحامين قام وصافحني بحرارة وقدم لي نفسه :
محمد الزعري محام بهيئة باريز وقد سبق لي ان رافعت في قضية الشهيد بن بن بركة .. أنا موكل للدفاع عنك رفقة الاستادين محمد بوزيع وعبد الرحمان بن بركة ..
شكرته على مؤازرته لي .. بعدما قالي لي :
اريد أن اناقش معك تفاصيل الملف وخطة الدفاع ، هل لديك استعداد ؟
أجبته : بالطبع ، تفضل أنا رهن اشارتك ..
قال :
اسمع , يجب ان تعترف بكل التهم المنسوبة إليك وأن تقلب المحاكمة ، عوض ان يحاكموك حاكمهم انت .. وحول النقاش في القضية الى نقاش سياسي ، وتحدث عن كل التظلمات التي وقعت منذالستينات
قلت له :
أنا واحد من المعتقلين . هل نسقت مع الاخ عبد الرحيم بوعبيد في هذه المسألة باعتباره رئيسا لهيأة الدفاع ؟ لأنني لا أستطيع الخروج عن الاجماع ..
قال :
بالطبع .. نسقت معه ، وإلا فلمادا أنا هنا .. قم بما قلت لك .. وافعل كالماريشال بيتان الذي حوكم في فرنسا بتهمة التعاون مع النازية لكنه قلب المحاكمة وعوض أن يحاكموه أصبح هو الذي يحاكمهم..
لم أتوفر على الشجاعة الكافية للخروج عن الإجماع ، فأنا واحد من المعتقلين ويجب ان ألتزم بالخطة التي اعتمدها دفاعنا جميعا.
في 14 يونيو 1971 اذن انطلقت المحاكمة .. كانت الجلسة تمتد من الثامنة والنصف الى غاية الثالثة بعد الزوال
أعددت مرافعتي للدفاع عن نفسي .. ارتكزت في ذلك على أن الإختطاف والإحتجار الذي طالني كان بسبب انخراطي في صفوف الفدائيين الفلسطيننين .. وفتحت هذه النافدة لكي أثبت أن أفقير كان عميلا للمخابرات الإسرائلية و c.i.a الأمريكية . إذ أن التحقيق كان بكامله مركزا على هذه المرحلة .. وعلى جنسيات الفدائيين وحول المعارضين منهم للأنظمة الحاكمة ببلدانهم.
عندما مثلت أمام المحكمة طلب مني القاضي أن أدلي بالمعلومات الشخصية .. بعد ذلك وجه لي التهم المنسوبة إلي و هي الإعتداء على النظام وإقامة نظام آخر مكانه والمس بالأمن الداخلي والخارجي وحيازة سلاح بدون رخصة وتزور الوثائق الرسمية .. ثم اخد يطرح علي الاسئلة انطلاقا من محاضر الشرطة ..
حاولت في إجابتي أن أثير مسألة الوضع السياسي بالمغرب والقمع الذي هيمن عليه ومصادرة الحريات الأساسية واختطاف بن بركة وذلك حتى تصبح المناقشة ذات طبيعة سياسية .. لكن مع الأسف كنت أقمع من طرف المحكمة .
سألني القاضي : لماذا دخلت سرا الى المغرب ؟
اجبته : احتياطا من مكر المخابرات المغربية التي لا يخفى تعاونها مع المخابرات الاسرائيلية والامريكية ..
وأضفت أن العلاقات بين المغرب وسوريا مقطوعة بسبب اختطاف المهدي بن بركة .. وما كدت أنهي هذه الجملة حتى قاطعني القاضي ومنعني من إكمال حديثي .. حينها تدخل كل من الاساتذة : عبد الرحمان بن عمرو وعبد الرحيم بوعبيد ومحمد بوستة والمرحوم عبد الكريم بنجلون وطالبوا جميعا القاضي بمنح المتهم حقه الكامل في التعبير.
فبادرت الى القول :
سيدي الرئيس ، اذا كان هدف محكمتكم الموقرة هو الوصول إلى الحقيقة فلماذا لا تسمحوا لنا بالافصاح عن كل الحقائق ؟ واذا كنتم مقتنعين بمحاضر الشرطة فلا داعي لاستنطاقنا بالمحكمة
انتم تتحدثون عن نتائج موجودة في هذه المحاضر ونحن نعطيكم أسبابها .....
لم يتركني أكمل وقمعني بشدة .
استمرت المحاكمة على هذا الإيقاع إلى حدود 9 يوليوز الدي كان يحتفل فيه الملك بعيد ميلاده بقصر الصخيرات وفيه وقع الانقلاب العسكري الأول الذي قاده كل من اعبابو والمدبوح.
انعكس هدا الحدث على سير المحاكمة فتوقفت لمدة يومين . وعندما استأنفت كانت المناقشة سريعة جدا وكان القاضي يكتفي بالسوؤال
هل وقع هذا ؟ نعم او لا .
الظرف السياسي جد مضغوط وضاعف الإنقلاب العسكري من حدته لذلك سعى المسؤلون إلى تسريع وثيرة هذه المحاكمة وإنهاء ملفها.
طالبت النيابة العامة بالحكم بعقوبة الإعدام حضوريا في حق أربعة عشر معتقلا هم : محمد الحبيب الفرقاني ، أحمد بن منصور، انتظام عيسى ، رمسيس محمد ، أجار محمد المدعو سعيد بونعيلات، بوجمعة بن ابراهيم ، يزيد البركة ، شوجار عبد الرحمن ، أحمد بن جلون ، الحاج آيت المؤذن ، الافواه محمد المدعو الدحيش ، عواد محمد المدعو كندا ، أمرير الحسين وإبراهيم بن الجيلالي.
وبفعل ظروف انقلاب الصخيرات وما حملته معها من تأزيم لعلاقة الملك بالجيش وبفقدان الثقة بينهما ، صدرت الأحكام على النحو الآتي :
عشر سنوات سجنا في حق كل من الفرقاني واحمد بن منصور، وانتظام عيسى والبركة اليزيد واحمد بن جلون والحاج آيت المؤذن وافواه محمد الدحيش .
وعشرين سنة سجنا نافدة في حق كل من رمسيس محمد وبوجمعة بن ابراهيم وشوجار عبد الرحمان .
الحكم بالإعدام في حق أجار محمد سعيد بونعيلات .
المؤبد في حق كل من عواد محمد وامرير الحسين وابراهيم بن الجيلالي .
أما السي محمد اليازغي فكان نصيبه خمس سنوات سجنا موقوفة التنفيد ليعاد اعتقاله مرة أخرى عقب أحداث مارس 1973.
منطقيا كان من المفروض أن تصبح قضيتنا جد ثانوية في ضوء الإنقلاب العسكري . لكن المنطق الإنتقامي هو الذي كان يهيمن فكان نصيبي منه عشرين سنة سجنا .
كانت المحاكمة صورية والأحكام التي أصدرها القاضي اللعبي كانت جاهزة قبل المحاكمة لذلك لم يكلف نفسه البحث عن الحقيقة والاستماع الجيد للمتهمين ومقارعة حججهم والمقارنة بينها وبين ما هو موجود في محاضر الشرطة. وكانت المحاكمة تجري في أجواء يملاؤها التهديد والإرهاب إذ كانت القاعة غاصة برجال المخابرات والدرك والأمن والتدخل السريع ولم يكن يسمح لعائلاتنا بحضور المحاكمة إلا بصعوبة.
بعد النطق بالأحكام مباشرة هم القاضي اللعبي بالخروج من القاعة رفقة ممثل النيابة العامة المجبود , فوقف جميع المعتقلين وأخذنا نردد بصوت واحد النشيد . فوقف القضاة وهيئة الدفاع والصحافيين . ومازلت أذكر صحافية فيتنامية جاءت خصيصا لتغطية الحدث ، تصرخ واضعة يدا في يد تعبيرا عن تضامنها معنا قائلةjusqu'au bout jusqu'au bout حتى النهاية ، حتى النهاية وكان
النشيد يقول :
كشف النقاب عن الوجوه الغادر ة
وحقيقة الشيطان بانت سافرة
إننا اتحاديون
لا نفنى ولا نهون
إننا لمنتصرون ..
أصيب القاضي بالذهول . اخذ يسأل المستشارين :
ماذا يقولون ؟ ماذا ؟
وضحوا له كلمات النشيد . اعتقدت حينها بأنه سيعود لعقد الجلسة ليضيف تهمة أخري وحكما آخر .
اقتادونا بعدها إلى سجن بولمهارز . بتنا فيه تلك الليلة وفي الغد رحلونا إلى السجن المركزي بالقنيطرة . لدى وصولنا أزاحوا العصابات عن أعيننا كالعادة . وجدنا الزنازن مهيأة . ورجال التدخل السريع داخل السجن لابسين بذلة موظفي وزارة العدل . بدورنا غيروا لنا ملابسنا بالبذلة الموحدة للسجن . خصصت لكل واحد منا زنزانة .
محمد المبارك البومسهولي
يتبع

عبد الرحمان شوجار: حياة على حد البندقية والقضبان 3

 عبد الرحمان شوجار: حياة على حد البندقية والقضبان 3



نشر في أزيلال أون لاين يوم 20 - 05 - 2008


عبد الرحمان شوجار: حياة على حد البندقية والقضبان
العودة إلى المغرب والاختطاف بأمزميز
بقينا لمدة طويلة بتل الأشعري أصبت خلالها رجلاي بالتهاب « الكزيما » بسبب الأحذية العسكرية التي كنا نلبسها لوقت طويل . بلغت درجة الألم جدا لم أعد أستطيع معه الوقوف أو الحركة فنقلوني إلى مستشفى درعه لتلقي العلاجات اللازمة . كان العديد من الفدائيين يزرونني هناك مما لفت انتباه الأطباء الذين أخذوا يستفسرون عن هويتي .. فأخبروا بأنني فدائي مغربي . وفي أحد الأيام جاءني الى غرفتي طبيبان عضوان بحزب البعث .. جلسا قرب السرير رحبوا بي أولا ثم سألني أحدهم:
ما هو نوع الاشتراكية الذي تتبناه؟ وهل تقرأ مراجع وكتب تمكنك من توسيع آفاقك السياسية والمعرفية؟ حينها لم تكن لي ثقافة رصينة تمكنني من الإجابة على أسئلته بدقة فقلت له بأنني أطالع بعض الكتيبات والمجلات والجرائد فاحتج مبتسما :
هذا غير كاف
كان ينتظر أن أقول له بأنني قرأت الرأسمال والأيديولوجية الألمانية والنظريات المرسخة للمفهوم المادي للتاريخ... فسألني مرة أخرى:
اذن ماهي الاشتراكية التي تتبناها وتعتبرها نموذجية وقابلة للتحقق؟
أجبته:
الاشتراكية المطبقة في الصين فاستدار جهة زميله قائلا: والله صحيح من أجل هذا حملت البندقية
بعدما شفيت عدت إلى المعسكر ولم نقم بأية عملية أخرى بعد عملية مستعمرة جبين واكتفينا بالمرافبة والرصد .
في بداية نونبر أخبرنا خالد علي و هو الاسم المستعار للسي ابراهيم التيزنيتي بسوريا بأن مهمتنا في صفوف الفدائيين الفلسطنيين قد أوشكت على نهايتها ولكل واحد الحق في اختيار الوجهة التي يريد التوجه اليها: دمشق ، الجزائر أو أي مكان آخر.. وبالفعل بحكم توقف العمليات العسكرية ضد العدو والاكتفاء بالرصد هيمن علينا احساس بالملل والروتين وتبديد طاقاتنا في الفراغ ..
أطلعت السي إبراهيم التيزنيتي على نيتي في العودة إلى المغرب وبعد إخبار قيادة الصاعقة بانتهاء مهمتنا في صفوف الفدائيين انتقلنا إلى دمشق وهناك التقينا بالفقيه الفكيكي .. حذرني بأن العودة إلى المغرب محفوفة بالمخاطر ولا تخلو من مجازفة ومغامرة وأن أجهزة المخابرات المغربية تتربص بنا . اعتذرت له مؤكدا بأن مسألة العودة بالنسبة لي هي مسألة تحدي سأرفعه متحملا كامل مسئوليتي..
طلبت من خالد علي بأن يساعدني بالدخول إلى المغرب وبعدها سأتدبر أموري بنفسي لم أكن جاهلا بمسؤولية العودة وعواقبها وذلك أولا لأنني كنت متابعا في قضية شيخ العرب ولأنني كنت لاجئا بالجزائر ولأنني قاتلت في صفوف الفدائيين الفلسطينيين إضافة إلى يقيني التام بأن المخابرات « الأفقيرية » كانت لها روابط وثيقة بالموساد الإسرائيلي و c.i.a الأمريكية وهو ما يفرض علي اتخاذ أقصى درجات الاحتياط والحذر
سافرت بجواز سفر سوري إلى مدريد رفقة السي إبراهيم التيزنيتي وأحد اللاجئين المغاربة الذي كان يحمل اسما مستعارا أعتقد أنه توفي عقب 1973 أقمنا في بونسيون وأخبرنا السي إبراهيم التيزنيتي بأن الفقيه البصري يوجد بمدريد وأنه يمكن أن يجعلنا نلتقيه إذا ما نحن رغبنا في ذلك .. وبالفعل التقيناه في إحدى حدائق المدينة . تحدثنا معه في مواضيع مختلفة وفي مسألة عودتنا إلى المغرب فحذرني الفقيه البصري قائلا:
اذا كنت ترغب في العودة إلى المغرب فيجب أن تتحمل مسؤولية ذلك لأن المخابرات المغربية تعرف كل شيء عن تحركاتنا بالخارج وعن كل ما نقوم به في الجزائر أو في سوريا أو في صفوف الفدائيين الفلسطينيين إذن يجب أن تأخذ كل الاحتياطات اللازمة عند دخولك إلي المغرب...
في اليوم الموالي للقائي بالفقيه البصري استقلت القطار في اتجاه مالكا.. عندما وصلت وجدت السيء ابراهيم التيزيني في انتظاري بالمحطة
ولست أدري إلى الآن بأي وسيلة وصل إلى هناك هل بواسطة السيارة أم كان راكبا معي في القطار كان الاحتياط ضروريا لذلك ربما لم نسافر معا تفاديا لأي كمين قد تنصبه لنا المخابرات ..
نزلنا في بنسيون رفقة عائلة إسبانية .. قضينا فيه النهار كله وفي الغد خرجت في اتجاه مطعم لتناول الطعام .. المطر يتساقط بغزارة وفي الطريق التقيت بالفقيه البصري يحمل مظلة تبادلنا التحية سألني عن ابراهيم التيزنيتي ثم افترقنا ..
في الساعة الثامنة صباحا من اليوم الموالي اتجهنا الى الميناء ركبت الباخرة في اتجاه مليلية أخبرني السي لابراهيم بأن شخصا يدعى الميد هو الذي سيستقبلني هناك وهو رجل أعمال وصاحب شركة حافلات النقل الحضري بوجدة وكان يدعى بأنه يتعاطف مع اللاجئين ..
بعد أزيد من ثماني ساعات قضيناها في البحر وصلت الى ميناء مليلية حيث وجدت الشخص ينتظرني ركبنا في سيارته التي كانت من نوع مرسيدس وذهبنا إلى الدار البيضاء سلمته جواز السفر السوري الذي دخلت به إلى المغرب .. قصدنا منزل السي بالمنصور الذي كان معنا بالجزائر ووجدنا لديه شخص من مراكش يدعى الحاج آيت الموذن فطلب منه أن يصحبني معه الى مدينة مراكش حتى أتمكن من زيارة عائلتي
أقمت في منزل الحاج آيت المودن المتواجد بحي الدوديات بمراكش . اخبرني بان الظروف السياسية والأمنية بالمغرب جد محرجة بفعل وشاية شخص يدعى اوراضي يعمل كأستاذ بسلا بمجوعة من المناضلين لدى السلطات التي ألقت عليهم القبض . وكان هذا الشخص مقربا جدا من عمر دهكون وهو صاحب كتاب الأغلبية المخدوعة ، وبسبب تداعيات هذا الحدث أصبحت المراقبة الأمنية جد مشددة وأجهزة الاستخبارات مستنفرة , فاقترح علي الحاج ايت المودن بان أقيم عند أحد المناضلين الاتحاديين كما يزعم ذلك بامزميز يدعى ابراهيم الموناضي . انخرط في حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في الستينات وله علاقة وثيقة ببعض المناضلين الاتحاديين خاصة الحبيب الفرقاني وآيت المودن..
بقيت عنده لمدة عشرين يوما كان خلالها يتغيب مرة أو مرتين في الأسبوع مبررا ذلك بأنه يقوم بلقاءات مع مناضلين حزبيين .
في يوم الأربعاء 17 دجنبر 1969 على الساعة الثانية عشرة زوالا كنت جالسا مع الموناضي في إسطبل (الروا ) الذي يفصله عن البيت حائط قصير . تحدثنا عن أثمنة الأغنام وعن الفلاحة والتجارة ومواضيع أخرى . فجأة داهمني مشهد لم يسبق لي أن رأيت مثله في حياتي كلها حتى في جبهات الحرب مع العدو الصهيوني عندما كنت في صفوف الفدائيين الفلسطينيين . حيث بدأ البشر يتقاطر من السماء كقطع التبر وري البرد أو كقطرات المطر. لم استطع أن أتتبين ما الذي وقع حتى وجدت نفسي مطروحا على الأرض تحت ركام من الأشخاص المجهولين ، بعضهم يمسك بأطرافي ليشل حركتها والآخرون ينهالون علي بكل أشكال الضرب وفي كل مناطق جسمي . التبس علي الأمر . لم اعد اعرف إن كانوا آدميين فعلا أم كلاب مسعورة في هيئة بشرية .
لا يمكنني نسيان ذلك المشهد بكل تفاصيله : الأشخاص ، الأشياء المحيطة ، خليط الأصوات التي اسمعها وهم يضعون العصابة على عيني ، اهتياجهم المسعور في ضبط تحركاتي ، الجلباب الذي ارتديته ، الألم الذي أحسه وهم يقيدون يدي إلى الخلف ، الوحشية التي دحرجوني بها إلى السيارة ، آخر مشاهد الحرية قبل الاختطاف ... كل هذ ما يزال يعيش معي إلى اليوم . لم اعرف حينها أنها عتبة مرحلة جديدة من حياتي تتشكل.
ساهمت غي عملية اعتقالي فرق من الدرك الملكي وفرقة من التدخل السريع والفرقة الاحتياطية والقوات المساعدة وأعوان السلطة المحلية إضافة إلى عناصر الاستخبارات التي كانت مكلفة بتسيير عملية الاعتقال والإشراف عليها.
بالنسبة لإبراهيم الموناضي الذي كان معي قبل المداهمة اختفى بسرعة البرق . ولم أخمن حينها أن له دور في نسج كل هذه الأحداث.
عندما زجوا بي في السيارة , جلس أحدهم إلى يميني وآخر إلى يساري . ضغطوا بقوة على رقبتي حتى انحنيت إلى اسفل . وانزلوا \\\"قب الجلابة التي كنت ارتديها على رأسي . تحركت السيارة . صمت مريب يخيم على المكان . حاولت أن أتحسس بسمعي صورة المشهد . لا حركة ولا صوت سوى هدير المحرك وصوت خفيف يحدثه احتكاك الوسطى بالإبهام بين الفينة والأخرى ، اعتقد أنها إشارة للتواصل فيما بينهم.
خفت سرعة السيارة قليلا . تغير إيقاع سيرها . تعالى ضجيج حركة السير. فعرفت أننا دخلنا منطقة حضرية . وربما كانت مدينة مراكش باعتبارها الأقرب إلي قرية أمزميز . توقفت السيارة في مكان يطبق عليه صمت رهيب . نباح كلب ينبعث من مكان بعيد كما لو تحت الأرض . سمعت صوتا يشي بانفتاح بوابة حديدية . تحركت السيارة مرة ثانية . أنزلوني منها . قال لي بحدهم : احذر الأدراج . الكلب يواصل نباحه . اقتادوني إلى ممر ثم أدخلوني إلى مكان آخر . ضغط أحدهم على كتفي بوحشية إلى أن انبطحت أرضا . لم اكن اعرف بالضبط أين أوجد : هل في غرفة أم في مكتب أم سجن .. عيناي معصوبتين . ويداي مقيدتين . وقب الجلابة يغطي رأسي ووجهي بكامله . الشخص الذي يحرسني بين الفينة والأخرى ينزل القب على الوجه لكي يحد من احتمال الرؤية من خلف العصابة.
بعد مدة قليلة سمعت وقع الأقدام وتزحزح الكراسي . خمنت ربما توجد هناك مكاتب . رائحة الطعام ملأت المكان . قال أحدهم بفم مملوء : أعط شي حاجة لها داك يكلها فرد عليه آخر بنغمة عنيفة : هاداك غادي يأكل السم ... عندما فرغوا من الآكل غادروا قليلا ثم عادوا .
من أي منطقة أنت ؟ كان أول سؤال طرحوه علي . أجبتهم : اصلي من نتيفة وكبرت بآسفي ... طلبوا معلومات عادية أخرى عن حياتي كتاريخ الازدياد وعدد الاخوة ثم انصرفوا ...
بعد حوالي نصف ساعة عادوا مقتادين الأخ الحبيب الفرقاني معهم . ستتطور الأحداث لأعرف فيما بعد بأن ابراهيم الموناضي قد قدم إلي الأجهزة الاستخبارية ثلاثة أسماء هي : أيت المودن والفقيه الفرقاني وعبد ربه . فاعتقلوا الفرقاني أولا ثم اعتقلوني بعده أما أيت المودن فقد وصله خبر الاعتقال ففر إلى الدار البيضاء..
سألوا الحبيب الفرقاني : هل تعرف عبد الرحمان شوجار ؟ . أجابهم بالنفي . سألوني بدوري إن كنت اعرفه . فنفيت ذلك . وهذا صحيح لأنه رغم شهرته كمناضل حزبي لم يسبق لي أن التقيت به من قبل.
النزول ضيفا على دار المقري
أمضيت النهار كله في ذلك المكان المجهول بمراكش ، لم ينزعوا العصابة عن عيني، لم يستجوبوني مرة أخرى . في الليل سحبوني بنفس الطريقة وأخرجوني . الكلب ينبح دائما .. أركبوني السيارة .. تحركت .. بدأت أحس بيدي شبه مقطوعتين بسبب القيد الذي بقي في يدي منذ اعتقالي بامزميز . كان ضيقا جدا لأنه من النوع الفرنسي .
طالت مدة سير السيارة فادركت أننا مسافرون الى مكان بعيد قد يكون منتهاه هو الموت ومن يدري ؟ . تيقنت أنني دخلت دائرة المجهول ..الكلاب الضالة تتربص بالحرية .. والذين يحرسون الشمس بأحلامهم مطاردون..انبعثت صورة الرفاق الثوار الفلسطيين .. حماسنا في مواجهة العدو الصهيوني .. حلمهم بمكان تحت الشمس تحتضنه الارض وحلمي بوطن حر.. كل هذا تراءى لي وأنا مد فون في سيارة مجهولة وسط ثعا بين لا تجيد سوىا للسع واجهاض الاحلام.
كلما خفت سرعتها وكثرت الضوضاء اعرف أننا دخلنا منطقة حضرية. لم أكن أعرف نوع السيارة ولا من كان معي فيها . أزداد الألم في يدي وكتفي . لم اشعر بالجوع أو العطش رغم أنني لم آكل اليوم كله بدأت أحس بالاختناق لان أجسامهم كانت تحاصرني من جميع الاتجاهات .
توقفت ا لسيارة قليلا.. ا انفتحت البوابة .. دخلت..أنزلوني إلى مكان مجهول. بعد المحاكمة سأعرف انه المعتقل الذائع الصيت دار المقري الذي يبعد ب <?xml:namespace prefix = st1 ns = \\\"urn:schemas-microsoft-comffice:smarttags\\\" />10 كيلومترات عن الرباط في اتجاه زعير. الجو بارد جدا وشهر دجنبر يوقع ببرودته الحلول الرسمي لفصل شتاء قارس.. أقعدوني الأرض - الدص – كالصقيع . تركوني هناك اليوم كله . لم يكلموني و لم ينزعوا عني القيد إلا عندما ذهبوا بي إلي المرحاض و أعادوه عندما خرجت منه.
في الليل لست ادري في أية ساعة بالضبط . سمعت صخبا كبيرا . إيقاع غير عادي لوقع الأقدام . ضجيج اصطكاك الأبواب . بالطبع كان ذلك من اجل إرهابي . كنت أعرف جيدا ما الذي ينتظرني خاصة وأن الصراع مع الاستخبارات دام لعدة سنوات مند أحداث شيخ العرب.
سألوني أين كنت وماذا افعل حاليا بالمغرب . أخبرتهم أنني كنت لاجئا بالجزائر والتحقت بقواعد الفدائيين الفلسطينيين . والآن عدت لأرى عائلتي . استمعوا لي جيدا ثم طلبوا مني أن أحدثهم عن حياتي منذ الطفولة . بالمدرسة ، والمستوى الدراسي الخ .. لما عرفوا مني هذه المعلومات انصرفوا .
بعد مدة قليلة عاد واحد منهم فقادني إلى الأسفل . أصوات بلا اوجه . ظلمة احملها في عيني المقفلتين . أحسست بان سقف هذا المكان قريب جدا من أرضه . الصوت جد مكتوم مهما أرتفع لن يستطيع مغادرة جدران هذا المكان . رائحة نتنة تزكم الأنف . نزعوا القيد أولا من يدي ثم بعده الجلابة . مددوني فوق لوح خشبي . شدوني إليه بقوة بواسطة حبل التفت على جسمي من الرجلين وحتى الصدر والكتفين . قربوا إناء كبيرا برميل تنبعث منه رائحة كريهة . عيناي مازالتا معصوبتين . وبدون مقدمات بدءوا يضربونني بوحشية . الضربات تتوالى على القدمين بعنف وأنا أردد اسم الجلالة الله ... الله .... الله بشكل مفاجئ يتوقفون ويقلبون اللوح الخشبي الذي شدوني إليه فيغطسون رأسي في البرميل لمدة معينة . تنقطع أنفاسي . يتباطأ نبض قلبي . افقد الوعي تدريجيا . أكاد أموت اختناقا تحت المياه النتنة التي امتلأ فمي ورئتاي بها . يخرجونني من البرميل فيسألوني : قل لماذا أتيت إلى المغرب ؟ هل من أجل تدريب السكان على حمل الأسلحة والخطط الحربية ؟ أصرخ لا ،لا ، هذا غير صحيح كنت في الثورة الفلسطينية قاومت إلى جانب الفدائيين وحاربت معهم العدو الصهيوني والآن أعود فقط لرؤية عائلتي ... فيستأنفون الضرب بشكل هستيري إلى أن اصبح على مشارف الموت ثم يغطسونني في المياه النتنة التي تنبعث منها روائح البول والخ.. والكريزي .. وكل أصناف البشاعة والقرف التي يمكن أن يتصورها الذهن البشري.
ظلمة العينين المعصوبتين .. ظلمة الاختناق .. أوجاع تقطع الجسم إربا إربا .. وهم كالأشباح لا يرون يمارسون عملهم بإتقان كبير يكشف عن موهبة خارقة في التعذيب والتلذذ بآلام الضحية كانوا يكررون نفس الأسئلة . فكرت حينها أن الموت واحد ومهما كان الثمن يجب أن أصمد .
لم يستطيعوا ذلك اليوم أن ينتزعوا مني أية معلومة .
في الأخير استسلموا ففكوا الحبال التي كانت تربطني باللوح الخشبي . ألبسوني الجلابة . أسدلوا القب على الرأس وقيدوا يدي لكن هذه المرة إلى الأمام لأنهم يعرفون أن قواي انهارت ولن أقدر على الهروب حتى ولو فتحوا الباب وجردوني من القيد .
تورمت قدماي وانتفخت . الآلام شديدة لم اعد أقوى معها على المشي . جاء أحدهم فوضع حقيبة على مقربة مني وبدأ يغرس حقنة في قدمي قصد إزاحة القيح والدم الذي تجمع فيها . سأعرف فيما بعد عقب التحاقي بالسجن واحتكاكي بالمعتقلين السياسيين السابقين بأنه الممرض حسون الذي خدر المهدي بن بركة في فرنسا وهو الوحيد الذي يسمح له بالدخول إلى معتقلات التعذيب كدار المقري ومعتقل درب مولاي الشريف.
تورمت قدماي وانتفخت . الآلام شديدة ، لم اعد أقوى معها على المشي . جاء أحدهم . وضع حقيبة صغيرة بقربي وبدا يغرس حقنة في قدمي قصد إزاحة القيح والدم الذي تجمع فيها . سأعرف فيما بعد عقب التحاقي بالسجن واحتكاكي بالمعتقلين السياسيين بأنه الممرض حسون الذي خدر الشهيد بن بركة اثر اختطافه بفرنسا . وهو الوحيد الذي كان يسمح له بالدخول إلى معتقلات التعذيب كدار المقري ومعتقل درب مولاي الشريف وغيرها من الأماكن التي تؤسس للذاكرة السوداء للمغرب المعاصر .
عزلوني وحدي . سمعت حركة غير عادية في الخارج . وقع الأقدام كطابور جيش . الأبواب تنفتح وتنغلق . حدست انهم احضروا مجموعة أخرى من المعتقلين . وبالفعل فقد اعتقلوا مجموعة أخرى قرب وجدة عند الحدود . وكان المناضي قد كشف كل الأسماء المتعاملة مع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بامزميز وأعضاء جيش التحرير . بعد ذلك احضروا مجموعة أخرى من دمنات . ثم احضروا سعيد بونعيلات واحمد بن جلون بعد اختطافهما من أسبانيا . ثم احضروا المجموعة التي وشى بها اوالراضي بسلا بمعنى أخر بدأت دار المقري تكتظ . وكان أسلوب الاعتقال يخضع لمنطق الجار والمجرور وكل ما يتعلق بهما .
من الأحداث العالقة في ذهني في تلك المرحلة والتي تنتصب في ذاكرتي كمعجزة خارقة يصعب تصديقها ، ما وقع لي ذات يوم بدار المقري . إذ القوا بي في غرفة تشبه المطبخ وكنت معصوم العينين ومكبل اليدين . كان أحد الهولنديين الذي اعتقل في إطار قضية مرتبطة بالتجسس هو المكلف بإطعام المعتقلين . وقد اختاره المسؤولون عن أجهزة الاستخبارات والقمع للقيام بهذه المهمة لانه لا يفقه شيئا في اللغة العربية وليست له معرفة بأي واحد منا ومن ثمة يستحيل عليه التواصل معنا .
فتح الباب وسمعت أحد الجلادين يتحدث مع الهولندي بلغته . بعدها ادخلوا شخصا إلى الغرفة فأغلقوها . انتابني إحساس غامض بان هناك حضور غير عادي . فبادرت إلى رفع يدي إلى وجهي وأزحت العصابة عن عيني قليلا . كان الشخص الذي أمامي مكبلا لابسا جلبابا اسودا . سادلا ‘'قب ‘' الجلابة على رأسه ووجهه . انتابني شعور رهيب تمتزج فيه الرهبة والحيرة والدهشة . هل يمكن أن يكون هو ؟ إنها كارثة إن اعتقلوه . كارثة عظمى لن تحل بنا فقط كمناضلين وانما كذلك بمصير حلمنا الذي ناضلنا وضحينا من اجله .
صمت رهيب . الكلام يعلن إفلاسه . الكلمات تغدو بكماء ولا هدير إلا لضوضاء الهواجس .
تسيل الأسئلة في ذهني وتتناثر الاستفهامات . فجأة وكما لو أراد أن ينهي حيرتي وبحركة سريعة أزاح ‘'قب ‘' جلبابه عن رأسه . يا الهي . انه بالفعل سيدي حمو عبد العليم . تقاطعت نظراتنا . لم يكن معصوب العينين . تعرفنا على بعضنا . قلت له :
- ما شفتيني ما شفتك .
بمعنى أنني لم اخبرهم عنك ولا تقل لهم أي شيء عني . كانت هذه الكلمات هي ما جمعنا في هذاالظرف الملتبس .
أحسست بهول الموقف . لان الشخص لم يكن عاديا . بل كان نواة متحركة تنعقد حولها شبكة اللاجئين بالجزائر .وكانت له علاقات واسعة بالمناضلين في كل أنحاء المغرب وإلقاء القبض عليه يعني إلقاء القبض على جميع المناضلين واللاجئين . ولو كتبت سيرة هذا الرجل لظهر في حجم أبطال مثل حمو الزياني لان الأدوار التي كان يقوم بها سواء في صفوف المقاومة أو في صفوف الحركة التقدمية كانت حاسمة . تضاعفت همومي . ولم اعد أفكر في وجبات التعذيب التي تنتظرني طيلة مقامي بدار المقري . بقدر ما صرت أفكر في ماذا سأقول عندما سيسألوني عنه . وما ذا سيجيبهم هو عندما سيسألونه عني . فمعرفتنا ببعضنا وثيقة جدا . أقمنا معا في منزل واحد بالجزائر رفقة عبد الله المالكي الذي يشتغل حاليا بالدار المغربية للنشر والسي علي والسي عبد الرحمن واخوه الفقيه ...
بقي معي في هذه الغرفة زهاء ساعتين فقط . ثم اقتادوه . بمجرد إغلاق الباب ومواجهتي للفراغ الذي تركه غياب سيد ي حمو استبدت بي الهواجس والوساوس وتفاقم إحساسي بوقوع الكارثة . وانتظرت تداعيات هذا الاعتقال ...لكن وبشكل مفاجئ وغريب لم يسألوني عنه ولم يسألوه عني بل اكثر من ذلك سرحوه للتو . وعاد إلى الجزائر لممارسة نشاطه . فكانت قصة سيدي حمو مع معتقل دار المقري كمن ابتلعه أسد في فمه وأغلقه عليه ومع ذلك استطاع الإفلات والخروج منه .
لم يعلم أحد من المعتقلين بهذه الواقعة سواي إلا عندما رويتها لهم بعد التحاقنا بالسجن العسكري بالقنيطرة . كلما تذكرت هذا الحدث ازداد ايقانا بان هناك معجزات تقع في قلب المآزق الأكثر تأزما . مثلما أتذكر الثبات والرزانة التي كان سيدي حمو رحمه الله يتمتع بها في أعتى اللحظات إضافة إلى ملامح الصدق التي ترتسم على محياه وهو يتحدث لتجعل الخصم يعتقد انه صادق في كل ما يقول .
تواترت وجبات التعذيب داخل دار المقري . تنوعت وصفاتها . واجتهد الجلادون في التفنين في ترويع المعتقلين والاستمتاع بعذابهم . ورغم كل شيء كنت أحس بأننا نحن الذين نعذبهم بأيماننا بمبادئنا وقناعتنا وصمودنا . لأننا بذلك كنا نقيم لفرق الشاسع الذي لا يمكن اختزاله بين الإنسان الذي يسكننا وبين الوحش الذي كانوه .
لم اكن اعتقد انهم يقومون بواجبهم فقط أي بما يلزمهم رؤساؤهم القيام به ، بل كانوا يبالغون في مضاعفة آلامنا لكي يتلذذوا بها . مثل هؤلاء لا يمكن ان يكونوا بشرا .
اقتادوني هذه المرة إلى الأعلى . المكان يشبه ورشة أو قاعة لرياضة كمال الأجسام أو رفع الأثقال . عرفت ذلك من خلال الآلات الحديدية والقطع الخشبية التي كنت أتخطاها تارة واعثر فيها تارة أخرى .
قيدوني وشدوا يدي إلى رجلي . ثم مروا عمودا حديديا تحت الركبتين فعلقوني بين السقف والأرض . وأصبحت كدجاجة تشوى في فرن تدور حول نفسها فوق النيران . هذه العملية هي ما يسمى في عرف معتقلات التعذيب السرية بالطائرة . واغلب زوار دار المقري ومعتقل درب مولاي الشريف ذاقوا عذابها .
توالى الضرب بكل أشكاله وفي كل المناطق من جسدي و ‘'الشيفون ‘' المملوء بكل أنواع القذارة المقرفة التي تعكس وجوههم : البول ، فضلات البشر ، سوائل جافيل والكربزي ، أوساخ وعفونة . كل هذا كان يمرر على الوجه ويزج به في الفم ... كنت في أقصى لحظات الألم ارثي حال هؤلاء الذين لم يكن أمامهم لتبرير وجودهم سوى تعذيب هذا الجسد الأعزل من كل شيء إلا من عشقه للحرية وإيمانه بالإنسان والحق .
الدخول إلى مختبر التعذيب كالدخول إلى بحر الظلومات : الداخل إليه مفقود والخارج منه مولود . كنت وأنا معلق في الطائرة ( الطيارة ) وجسدي يتلقى وابلا من الضربات الممزوجة بكل أنواع المهانة والحقد والعدوانية ، أحس أن قواي قد خارت وان نهايتي وشيكة فصرخت :
ستقتلونني ... سأموت ...سأموت رد علي أحدهم بوحشية وبنغمة مفرغة من أي حس إنساني:
ومن قال لك إننا نريدك حيا . مت . حياتك لا تهمنا في
شيء ... قل لنا فقط ما نريد ثم مت ... من يدخل إلى هنا لا أمل له في الخروج منه سواء حي أو ميت
ثم اقترب مني نفس الشخص . عرفت فيما بعد انه عبد الحق العشعاشي أخ محمد العشعاشي المتورط في اختطاف واغتيال الشهيد بن بركة وهما من منطقة وجدة . وجذب أذني بعنف حتى كاد يقتلعها وصرخ :
لا توهم نفسك بأنك شخص مهم وعظيم يستطيع الصمود . فمن هم أقوى منك واعظم سلخ جلدهم هنا وفتت ...
عندما كنت في البادية كثيرا ما رأيت حيوانات تفترس بعضها لكن لا تصل إلى حد بشاعة ما يقع في دار المقري . إن الذئاب كما رايتها في البراري تفترس الخرفان بطريقة الطف وارحم مما يقع في هذا المعتقل الذي تفوق فيه درجة القسوة والازدراء الوحشي المستوى الحيواني .
كنت أشفق عليهم لأنهم بتعذيبنا كانوا يغتالون مستقبل أبنائهم وحقهم في أن ينعموا بوطن يسوده الحق والحرية والكرامة . أسفت عليهم لكونهم لا يربطهم بهذا العالم سوى الارتزاق على حساب كل شيء . انهم مجرد آلات بدون امتلاء روحي ولا إحساس ولا حب .
في لحظات الضعف التي تجتاحني أثناء التعذيب أحس بانكسار كبير وأتصور نفسي بمرارة كاسد كان يصول ويجول بأحلام في حجم الكون وصار أسيرا في قفص ضيق كبيت نملة يعبث به الجبناء . وفي حالات أخرى تنغلق أمامي كل نوافذ الأمل فأوقن أنها نهايتي المحتومة . وان دهاليز دار المقري وغياهبها ستكون هي مقبرتي . وان أخر ذكرى سأحمل معي عن هذا العالم هي صياح الجلادين واهتياجهم الرهيب ككلاب مسعورة .
المخابرات المغربية تعد تقارير لفائدة جهات أجنبية
استمر تعذيبي بأسلوب الطائرة طويلا إلى أن انهارت كل قواي فلم اعد أقوى حتى على النطق . اخذوا في الصراخ : تكلم ... هيا تكلم ... لم أجبهم ليس لأنني لا أريد وإنما لأنني لم اعد اقدر على ذلك .
انفعل أحدهم فارتمى على عنقي وخنقني بقبضته بقوة حتى كاد ينتزع حنجرتي . لما أزاح يده كان الصوت قد اختفى نهائيا . إذ أنني مهما حاولت النطق فلم اكن اقدر حتى على التأوه . ازداد اهتياجهم بشكل هستيري وصاروا يصيحون : تكلم ..تكلم .. الآلام تشتد في حنجرتي ووحدها السبابة وسيلتي في الإشارة إليهم بأنني شبه ميت . وها قد مضت أزيد من ثلاثين سنة ومازلت أعاني من انتفاخ غير طبيعي في الحنجرة .
لما تأكدوا بأنني على حافة الموت أنزلوني من الطائرة .طرحوني أرضا واخذوا يصبون علي المياه العفنة ذات الروائح النتنة . ثم أخرجوني وهم يجرونني جثة هامدة .
أدخلوني إلى مكتب الاستنطاق . سمعت صوتا مخيفا ليس لأولئك الذين كانوا يعذبونني . واستنشقت رائحة السجائر الأمريكية من النوع الممتزجة بروائح العطور الجيدة . القوني أرضا . أصيبت كل أعضائي بارتخاء تام . فتهاويت على الجدار . وصل إلى سمعي حديث بالفرنسية بين الجلادين والشخص صاحب الصوت المخيف في مكتب الاستنطاق .
بعدها سحبوني إلي الأسفل . عندما فتحت عيني وجدت معي توفيق الإدريسي وهو محامي مازال يمارس حتى الآن بالدار البيضاء وإبراهيم الرباطي نائب رئيس المجلس البلدي باكادير حاليا .
الحركة بدار المقري لا تفتر أبدا الصراخ والأنين لا يتوقفان فيها . كانت كسوق يستشيط فيه النشاط والرواج ليل نهار على مدار 24 ساعة متصلة . إذ أن كل مجموعة من الجلادين كانت مكلفة بالتحقيق مع واحد من المعتقلين وتعذيبه .
أهملوني لمدة يومين ثم عادوا لاستنطاقي . والغريب أن اغلب أسئلتهم كانت تركز على مسائل لا تهم المغرب . إذ انهم كانوا يلحون على معرفة الأجواء داخل القواعد الفلسطينية ، يطلبون معلومات دقيقة عن الفدائيين كأعداد المنخرطين في صفوفهم وجنسياتهم والخطط المتبعة وهل هناك عناصر معارضة للأنظمة السياسية الحاكمة ببلدانهم وأسمائهم .. ولم تحظ مسألة اللاجئين المغاربة بالجزائر سوى باهتمام هامشي من قبلهم . وهذا ما أكد لي أن التحقيق والاستنطاق معنا لم يكن كله لفائدة جهات مغربية وإنما كان لصالح جهات أجنبية . والتقارير الحقيقية التي أعدت للمعتقلين داخل دار المقري أثناء التحقيق ليست لها علاقة بمحاكمة مراكش الكبرى . بل في الغالب أعدت لترفع إلى أجهزة استخبارية أجنبية كالاستخبارات الإسرائيلية واستخبارات بعض الدول العربية التي تنسق معها المخابرات المغربية .
قضينا سبعة اشهر بدار المقري .. دام التعذيب الجسدي فيها أربعة اشهر كاملة . وفي الأشهر الثلاثة الأخرى ركزوا على التعذيب النفسي إذ أن الاستنطاق حينها كان قد انتهى تقريبا . فبعد أن أزاحوا العصابة عن أعيننا وزعونا على الزنازين في شكل مجموعات . وكانت خطتهم في التعذيب النفسي تقوم على زرع الاضطراب والشك والخوف وعدم الأساس بالراحة والأمان وانتظار الأسوأ . إذ كانوا يعمدون إلي فتح باب الزنزانة بعنف وينادون على أحدنا باسمه وعندما يقف يهم بالخروج ينظرون إليه مليا وبعدها يقولون له : لست أنت من نريد . عد إلى مكانك . في الغد يعودون ثم يصطحبونه معهم . وفي منتصف الكولوار ( الممر ) يطلبون منه الجلوس أرضا ويطلبون منه الانتظار . وبعد مضي نصف ساعة يعودون به الغرفة . وذلك حتى يبقى نفسيا في حالة ترقب وارتباك منتظرا عودة التعذيب في ابشع صورة مرة أخرى .
لم تتغير وجبات الطعام المقدمة بدار المقري طيلة السبعة اشهر التي أقمنا بها . فالفطور كان الشاي والخبز المصنوع من دقيق رديء ، وفي وجبة الغذاء يقدمون لنا كل يوم بالتناوب إما العدس أو الفاصوليا ( اللوبية ) ، أما العشاء فيكون بالشعرية .
مضت ستة اشهر ونصف على مقامنا بدار المقري. في إحدى الليالي رحلوا مجموعة من المعتقلين إلى السجن العسكري بالقنيطرة منهم الحبيب الفرقاني ومجموعة أمزميز ومعتقلين آخرين . بقيت رفقة مجموعة أخرى أسبوعين بعدهم بدار المقري ثم نقلونا ليلا في سيارات لا نوافذ لها استغرقت عملية الترحيل الليل كله .
عند ركوبنا السيارات أحاطت بنا عناصر من الدرك وقوات التدخل السريع وعناصر المخابرات وبدأوا ينهالون علينا بالضرب والرفس والركل والشتم فلا نسمع سوى عبارات من قبيل :
زد أ لحمار.. زد ألكلب .. اولد القحبة..
وكان هذا الأسلوب متعمد للإرهاب النفسي يهدف إلى جعلنا نترقب ما هو أسوا وافظع من دار المقري .
وصلنا السجن العسكري . فتح الباب . دخلت السيارات التي تقلنا . أنزلونا منها معصوبي العينين ومقيدي اليدين إلى الخلف . ترددت على مسامعنا عبارات : وي مون كومندان .. حينها عرفت أننا محاطون بالجيش . إذ كان مدير السجن وهو عسكري من رتبة كومندان يدعى بوعزة يشرف بنفسه على استلامنا . اقتادونا في شكل طابور إلى إدارة السجن . نزعوا عن أعيننا العصابات ، وقيدوا أيدينا إلى الأمام . ثم أوقفونا في شكل طابور فرادى فرادى . طلبوا من كل واحد منا أن يدلي باسمه . بعد ذلك وزعونا على زنازين منفردة . لم يكن وضعها احسن من الأقبية المظلمة لدار المقري .
إذا كانت عبارة جحور مهملة مقيتة مقرفة تسكنها العناكب وتنشر فيها خمائلها . طلاء جدرانها حقير ومتقادم يتساقط بفعل الرطوبة . لم نجد فيها سوى غطاء رث ( كاشة ) موضوعة على دكانة إسمنتية معدة للنوم . وبمحاذاتها يوجد ثقب في الأرض يؤدي وظيفة مرحاض والى جانبه صنبور ماء .كان كل شيء معد لإهانتنا والحط من كرامتنا وازدراء قيمتنا الإنسانية وتحسيسنا بأننا في مرتبة أدنى من الحيوان .
في تلك الليلة لم يقدموا لنا وجبة العشاء . وفي صباح الغد امتلأ السجن العسكري برجال التدخل السريع في زي مدني الذين أوكلت إليهم مهمة الحراسة من الداخل تحت إمرة مدير السجن وبقيت الحراسة الخارجية موكولة لعناصر الجيش . كما لو أن أجهزة الأمن لا تثق إطلاقا في الجيش وعملت على تامين الحراسة بنفسها .
في الثامنة صباحا جاءنا مدير السجن الكومندار بوعزة وهو من العسكريين المحترفين الذين تكونوا في الجيش الفرنسي . اصله من منطقة أولاد سعيد قرب مدينة سطات . وشارك في الحرب العالمية الثانية وحارب إلى جانب الاستعمار الفرنسي في الهند الصينية .
فتح الزنازين وامرنا بألا نخرج . كان يحمل صولجانه تحت إبطه ويتبعه قائد فرقة التدخل السريع وعسكري من درجة ادجودان . وكلما وصل زنزانة ينظر مليا في نزيلها ثم يمر . قام بجولته التفقدية ثم انصرف . فأغلقوا الزنازين مرة أخرى .
كانت وجبة الفطور بالسجن العسكري تتكون من حساء معد بالماء والدقيق والملح . والغذاء كان إما بالعدس أو اللوبية . والعشاء بالشعرية أو المقرونة . أما اللحم فكان يقدم لنا مرة واحدة فقط في الأسبوع وغالبا في يوم الجمعة وعندما يقدم مرتين في اليوم الواحد أي في وجبة الغذاء والعشاء نعرف انه يوم عيد وطني أو ديني .
مر أزيد من شهر ونحن محتجزين داخل الزنازين لا يسمح لنا فيها بالخروج . وإذا أضفنا إليها السبعة اشهر التي قضيناها في غياهب دار المقري تكون المدة التي حرمنا فيها من رؤية الشمس قد بلغت أزيد من ثمانية اشهر إلى الحد الذي لم نعد نستطيع فيه الرؤية داخل الزنازين بفعل انعكاس أشعة الشمس التي تتسلل إلى الكولوار على الجير الأبيض ( الجبص ) الذي طليت به الزنازين . كانوا يحاولون الانتقام منا بكسبنا عادات الخفافيش والوطاويط التي لا تتأخر إلا مع الظلام . لكننا لم نستسلم وخضنا معارك للدفاع عن إنسانيتنا
محمد المبارك البومسهولي
يتبع